[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]هو
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن
عبد مناف، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير
المؤمنين حقًا أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الراشد
أشج بني أمية، كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين، وكان حسن
الأخلاق والخَلْق، كامل العقل، حسن السّمت، جيد السياسة، حريصًا على العدل
بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاهًا مُنيبًا
قانتًا لله حنيفًا، زاهدًا مع الخلافة، ناطقًا بالحق مع قِلَّة المعين،
وكثرة الأمراء الظلمة الذين مَلُّوه وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أعطياتهم،
وأخذه كثيرًا مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حق، فما زالوا به حتى سَقَوْه
السم، فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُدَّ عند أهل العلم من الخلفاء
الراشدين والعلماء العاملين، وكان -رحمه الله- فصيحًا مفوهًا.
والد عمر بن عبد العزيز:
هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من خيار أمراء بني أمية، شجاعًا
كريمًا، بقي أميرًا لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه
أنه لما أراد الزواج قال لقَيِّمِه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي؛
فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح. فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب t،
وهي حفيدة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقيل: اسمها ليلى، كما أن زواجه
من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحسن سيرته وخلقه، فقد كان حسن
السيرة في شبابه، فضلاً عن التزامه وحرصه عل تحصيل العلم واهتمامه
بالحديث النبوي الشريف، فقد جلس إلى أبي هريرة وغيره من الصحابة وسمع
منهم، وقد واصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مُرَّة
في الشام أن يبعث إليه ما يسمعه من حديث رسول الله r إلا ما كان من طريق أبي هريرة فإنه عنده.
أم عمر بن عبد العزيز:
أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب t،
ووالدها عاصم بن عمر بن الخطاب، كان من نبلاء الرجال خيرًا صالحًا بليغًا
شاعرًا فصيحًا، وهو جد الخليفة عمر بن عبد العزيز لأمه، مات سنة 70هـ.
أما جدته لأمه فقد كان لها موقف مشهور مع عمر بن الخطاب t؛ فيُروَى عن عبد الله بن الزبير بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال: بينما أنا وعمر بن الخطاب t
وهو يعس بالمدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة
تقول لابنتها: يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. فقالت لها:
يا أمتاه، أوَما علمت ما كان من أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من
عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديًا، فنادى أن لا يُشابَ اللبنُ بالماء.
فقالت لها: يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء؛ فإنك بموضع لا يراك
عمر، ولا منادي عمر. فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه، واللهِ ما كنتُ
لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء. وعمر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم،
عَلِّمِ الباب واعرف الموضع، ثم مضى في عسِّه.
فلما أصبحا قال: يا أسلم، امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن
المقول لها، وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيِّم لا
بعل لها، وإذا تيك أمها، وإذا ليس لها رجل، فأتيت عمر فأخبرته، فدعا عمر
ولده، فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أُزوِّجه؟ فقال عاصم: يا
أبتاه، لا زوجة لي فزوجني. فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم
بنتًا ولدت البنتُ عمر بن عبد العزيز.
ويُذكر أن عمر بن الخطاب t رأي ذات ليلة رؤيا، فقال: ليت شعري من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلاً كما ملئت جورًا؟!
مولد عمر بن عبد العزيز:
اختلف المؤرخون في سنة مولده والراجح أنه ولد عام 61هـ، وهو قول أكثر المؤرخين بالمدينة.
لقب عمر بن عبد العزيز:
كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يُلقّبُ بالأشج، وكان يقال له: أشج
بني مروان، وذلك أن عمر بن عبد العزيز كان كان صغيرًا دخل إلى إصطبل أبيه
عندما كان واليًا على مصر ليرى الخيل، فضربه فرس في وجهه فشجه فجعل أبوه
يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذًا لسعيد. ولما رأى أخوه
الأصبغ الأثر قال: الله أكبر! هذا أشج بني مروان الذي يملك، وكان الفاروق
عمر يقول: إن من ولدي رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً. وكان الفاروق قد
رأى رؤيا تشير إلى ذلك، وقد تكررت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر
مشهورًا عند الناس، بدليل ما قاله أبوه عندما رأى الدم في وجهه، وما قاله
أخوه عندما رأى الشج في وجهه، كلاهما تفاءل لعله أن يكون ذلك الأشج الذي
يملأ الأرض عدلاً.
زوجات عمر بن عبد العزيز:
نشأ عمر بالمدينة وتخلق بأخلاق أهلها وتأثر بعلمائها، وأكبَّ على أخذ
العلم من شيوخها، وكان يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابها، وما زال ذلك
دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان
فخلطه بولده، وقدَّمه على كثير منهم، وزَوَّجَه ابنته فاطمة بنت عبد
الملك، وهي امرأة صالحة تأثرت كثيرًا بعمر بن عبد العزيز، وآثَرَت ما عند
الله على متاع الدنيا، وهي التي قال فيها الشاعر:
بنت الخليفة والخليفة جدها *** أخت الخلائف والخليفة زوجها
ومن زوجاته -أيضًا- لميس بنت الحارث، وأم عثمان بنت شعيب بن زبان.
تكوينه الشخصي
1- الواقع الأسري:
نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة، فلما شَبَّ وعقل -وهو غلام صغير-
كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه
فيقول: يا أُمَّه، أنا أحب أن أكون مثل خالي. يريد عبد الله بن عمر،
فتؤفِّف به، ثم تقول له: اغْرُب، أنت تكون مثل خالك. وتكرر عليه ذلك غير
مرة، فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميرًا عليها، ثم كتب
إلى زوجته أم عاصم أن تَقْدُم عليه بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر
فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها، فقال لها: يا ابنة أخي، هو زوجك
فالحقي به. فلما أرادت الخروج قال لها: خلفي هذا الغلام عندنا -يريد عمر
بن عبد العزيز- فإنه أشبهكم بنا أهل البيت. فخلفته عنده ولم تخالفه.
فلما قدمت على عبد العزيز، سألها عن عمر ابنه، فأخبرته الخبر، فسُرَّ
بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن
يُجرَى عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مُسلِّمًا.
وهكذا تربى عمر -رحمه الله- بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر بن عبد الخطاب t، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة.
2- إقباله المبكر على طلب العلم وحفظه القرآن الكريم:
لقد رزق عمر بن العزيز منذ صغره حب الإقبال على طلب العلم وحب المطالعة
والمذاكرة بين العلماء، كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم، في المدينة
وكانت يومئذٍ منارة العلم والصلاح زاخرة بالعلماء والفقهاء والصالحين،
وتاقت نفسه للعلم وهو صغير، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز
حرصه على العلم ورغبته في الأدب، وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير،
وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب
العلم والحفظ.
وقد تأثر كثيرًا بالقرآن الكريم في نظرته لله U
والحياة والكون والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الموت، وكان يبكي
لذكر الموت بالرغم من حداثة سنه، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت: ما
يبكيك؟ قال: ذكرت الموت. فبكت أمه حين بلغها ذلك. وقد عاش طيلة حياته مع
كتاب الله U متدبرًا، ومنفذًا لأوامره، ومن مواقفه مع القرآن الكريم: ما روي أن رجلاً قرأ عنده وهو أمير المدينة يومئذ {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13]. فبكى عمر حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه؛ فقام من مجلسه فدخل بيته وتفرَّق الناس.
3- الواقع الاجتماعي:
إن البيئة الاجتماعية المحيطة لها دور فعال ومهم في صناعة الرجال وبناء
شخصيتهم، فعمر بن عبد العزيز عاش في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والصلاح
والإقبال على طلب العلم، والعمل بالكتاب والسنة، فقد كان عدد من الصحابة ما
زالوا بالمدينة، فقد حدَّث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن
يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحًا شرب منه النبي r وأمّ أنس بن مالك، فقال: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله r من هذا الفتى.
فكان للإقامة بالمدينة آثار نفسية، ومعان إيمانية وتعلق روحي، وكان
لذلك المجتمع أثره في صياغة شخصية عمر بن عبد العزيز العلمية والتربوية.
4- تربيته على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها:
اختار عبد العزيز -والد عمر- صالح بن كيسان ليكون مربيًا لعمر بن عبد
العزيز، فتولى صالح تأديبه، وكان يلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد،
فحدث يومًا أن تأخر عمر بن عبد العزيز عن الصلاة مع الجماعة، فقال صالح بن
كيسان: ما يشغلك؟ قال: كانت مُرَجِّلَتي -مُسَرِّحة شعري- تُسَكِّن شعري،
فقال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز
يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حَلَقَ رأسه، وكان عمر حريصًا
على التشبه برسول الله r أشد الحرص فكان يتم
الركوع والسجود، ويخفف القيام، والقعود، وفي رواية صحيحة أنه كان يسبح في
الركوع والسجود عشرًا عشرًا، ولما حج أبوه ومر بالمدينة سأل صالح بن كيسان
عن ابنه فقال: ما خَبرتُ أحدًا اللهُ أعظم في صدره من هذا الغلام.
ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم عبيد الله بن عبد الله بن
عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجلُّه كثيرًا، ونهل من علمه وتأدب بأدبه،
وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة
التردد إلى مجلسه، فقال: لمجلس من الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
بن مسعود أحب إليَّ من ألف دينار. وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما
عند شيخه من علم غزير: لو كان عبيد الله حيًّا ما صدرت إلا عن رأيه،
ولوددت أن لي بيوم واحد من عُبيد الله كذا وكذا. وكان عبيد الله مفتي
المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة، قال عنه الزهري: كان عبيد الله بن
عبد الله بحرًا من بحور العلم، كما كان يقرض الشعر، فقد كتب إلى عمر بن
عبد العزيز هذه الأبيات:
باسم الله أنزلت من عنـده السـور *** والحمد لله أما بعد يا عــمرُ
إن كنت تعـلم ما تأتي وما تـذر *** فكن على حذر قد ينفع الحذرُ
واصبر على القدر المحتوم وارضَ به *** وإن أتـاك بما لا تشتهي القدرُ
فما صفا لامرئ عيش يُســرُّ به *** إلا سـيتبع يومًا صفوَه كـدرُ
وقد توفي هذا العالم الجليل سنة 98هـ، وقيل: 99هـ.
ومن شيوخ عمر: سعيد بن المسيب، وكان سعيد لا يأتي أحدًا من الأمراء غير عمر، ومن شيوخه أيضًا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب
الذي قال فيه سعيد بن المسيب: كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به، وكان
سالم أشبه ولد عبد الله به، وقال عنه الإمام مالك: لم يكن أحد في زمان
سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه.
وتربى وتعلم عمر بن عبد العزيز على أيدي كثير من العلماء والفقهاء، وقد
بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين، ثمانية منهم من الصحابة،
وخمسة وعشرون من التابعين؛ فقد نهل من علمهم، وتأدب بأدبهم، ولازم مجالسهم
حتى ظهرت آثار هذه التربية في أخلاقه وتصرفاته، فامتاز بصلابة الشخصية،
والجدية والحزم في معالجة الأمور، وإمعان الفكر وإدامة النظر في القرآن،
والإرادة القوية والترفع عن الهزل والمزاح.
هذه هي أهم العوامل التي أثرت في تكوين شخصيته، ومن الدروس المستفادة،
أن العلماء الربانيين يقع على عاتقهم مسئولية كبيرة، وهي الاهتمام بأولاد
الأمراء والحكام، وأهل الجاه والمال؛ ففي صلاحهم خير عظيم للأمة
الإسلامية.
مكانته العلمية:
اتفقت كلمة المترجمين له على أنه من أئمة زمانه، فقد أطلق عليه كل من
الإمامين مالك وسفيان بن عيينة وصف إمام. وقال عنه مجاهد: أتيناه نعلمه،
فما برحنا حتى تعلمنا منه. وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز
معلم العلماء.
وقال عنه الذهبي: كان إمامًا فقيهًا مجتهدًا عارفًا بالسنن، كبير الشأن
حافظًا قانتًا لله، أوَّاهًا منيبًا، يُعَدُّ في حُسن السيرة والقيام
بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري، وقد احتج العلماء والفقهاء بقوله وفعله.
وقال عنه الإمام أحمد: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز، ويذكر محاسنه وينشرها؛ فاعلم أن من وراء ذلك خيرًا إن شاء الله.
وهكذا نجد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قد نشأ محبًّا للعلم
وللعلماء، متأسيًا بهم وبأعمالهم، الأمر الذي جعل كافة أطياف المجتمع
الإسلامي تجلُّه وتحترمه وتحبه، وحتى من أتوا بعده من العلماء والعامة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]في ربيع الأول من عام 87هـ أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك بتكليف عمر بن عبد العزيز
بإمارة المدينة المنورة، ثم ضمَّ إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، وبذلك صار
واليًا على الحجاز كلها، واشترط عمر لتوليته الإمارة الثالثة شروطًا:
الشرط الأول: أن يعمل
في الناس بالحق والعدل، ولا يظلم أحدًا، ولا يجور على أحدٍ في أخذ ما على
الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يَقِلَّ ما يرفع للخليفة من
الأموال من المدينة.
الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة؛ لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
الشرط الثالث: أن
يُسمح له بالعطاء أن يخرجه للناس في المدينة، فوافق الوليد على هذه الشروط،
وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة، وفرح الناس به فرحًا شديدًا.
مجلس شورى عمر) (مجلس فقهاء المدينة العشرة))
كان من أبرز الأعمال التي قام بها عمر بن عبد العزيز تكوينه لمجلس
الشورى بالمدينة، فعندما جاء الناس للسلام عليه، دعا بعشرة من فقهاء
المدينة وهم: عروة بن الزبير،
وعبيد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر
بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد
الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن
ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه
بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تُؤجَرون عليه وتكونون فيه أعوانًا
على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن
رأيتم أحدًا يتعدَّى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرِّج اللهَ على من
بلغه ذلك إلا أبلغني.
لقد كان عمر بن الخطاب t يجمع المجلس للأمر يطرأ، فيرى ضرورة الشورى فيه، أما عمر بن عبد العزيز فقد أحدث مجلسًا حدد صلاحياته بأمرين:
1- أنهم أصحاب الحق في تقرير الرأي، وأنه لا يقطع أمرًا إلا برأيهم،
وبذلك يكون الأمير قد تخلى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس، الذي نسميه (مجلس
العشرة).
2- أنه جعلهم مفتشين على العمال، ورقباء فإذا ما اتصل بعلمهم أو بعلم
أحدهم أن عاملاً ارتكب ظلامة فعليهم أن يبلغوه، وإلاَّ فقد استعدى الله على
كاتم الحق.
ونلاحظ أيضًا أن هذا التدبير قد تضمن أمرين:
1- أحدهما: أن الأمير
عمر بن عبد العزيز لم يخصص تعويضًا لمجلس العشرة لأنهم كانوا من أصحاب
العطاء، وبما أنهم فقهاء فما ندبهم إليه داخل في صلب اختصاصاتهم.
2- الثاني: أن عمر افترض غياب أحدهم عن الحضور لعذر من الأعذار، ولهذا لم يشترط مع تدبيره حضورهم كلهم، وإنما قال: "أو برأي من حضر منكم".
إن هذا المجلس كان يُستشار في جميع الأمور دون استثناء.
ونستنتج من هذه القضية أهمية العلماء الربانيين، وعلو مكانتهم، وأنه يجب
على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهم منه، ويشاورهم في أمور الرعية، كما أنه
على العلماء أن يلتفوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر
ممكن من المصالح، وتقليل ما يمكن من المفاسد، كما أن عمر بن عبد العزيز لم
يقتصر في الشورى على هؤلاء فحسب، بل كان يستشير غيرهم من علماء المدينة،
كسعيد بن المسيب والزهري وغيرهما، وكان لا يقضي في قضاء حتى يسأل سعيد.
وفي المدينة أظهر عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إجلاله للعلماء وإكباره
لهم وقد حدث أن أرسل رحمه الله تعالى رسولاً إلى سعيد بن المسيب يسأله عن
مسألة، وكان سعيد لا يأتي أميرًا ولا خليفة فأخطأ الرسول؛ فقال له: الأمير
يدعوك، فأخذ سعيد وقام إليه في وقته، فلما رآه عمر، قال له: عزمتُ عليك يا
أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله
ليدعوك، ولكنه أخطأ، إنما أرسلناه ليسألك.
وفي إمارته على المدينة المنورة وَسَّعَ مسجد رسول الله
بأمر من الوليد بن عبد الملك حتى جعله مائتي ذراع في مائتي ذراع، وزخرفه
-أيضًا- بأمر الوليد، مع أنه يرحمه الله كان يكره زخرفة المساجد، ويتضح من
موقف عمر بن عبد العزيز هنا أنه قد يضطر الوالي للتجاوب مع قراراتِ مَن هو
أعلى منه حتى وإن كان غير مقتنع بها، إذا قدر أن المصلحة في ذلك أكبر من
وجوه أخرى. وفي إمارته على المدينة سنة 91هـ حَجَّ الخليفة الوليد بن عبد
الملك، فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه
الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة.
نقطة تحول
إن الصديق الصالح المخلص الذي دائمًا يتعاهدك بالنصح والتذكير، لهو نعمة
مَنَّ الله بها عليك، ودليل على رضاء الله عليك، ومحبته لك، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
كان من فضل الله على عمر بن عبد العزيز أن أحاطه بصحبة طيبة دائمًا
تذكره بالله عند الغفلة، فيُروَى: أن عمر بن عبد العزيز حبس رجلاً فجاوز في
حبسه القدر الذي يجب عليه، فكلمه مزاحم في إطلاقه، فقال عمر: ما أنا
بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه بما هو أكثر مما مَرَّ عليه. فقال مزاحم:
يا عمر بن عبد العزيز، إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة، في صبيحتها تقوم
الساعة، يا عمر! ولقد كدت أنسى اسمك مما أسمع: قال الأمير، قال الأمير.
فقال عمر: فواللهِ ما هو إلا أن قال ذلك، فكأنما كشف عن وجهي غطاء.
ومنذ هذه اللحظة بدأت حياة عمر بن عبد العزيز في التحوُّل.
عمر بن عبد العزيز وخبيب بن عبد الله بن الزبير
ظلَّ عمر بن عبد العزيز واليًا على المدينة حوالي ست سنوات كان فيها
موضع الرضا من أهلها، وقد أقام الحج أثناء ولايته عدة مرات، وكان عمر يعتبر
فترة ولايته على المدينة من أسعد أيام حياته، ولم يعكر صفو أيامه هذه إلا
حادثة خبيب بن عبد الله بن الزبير؛ فيروى أن خبيب بن عبد الله حدَّث عن
النبي أنه قال: "إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً".
فبعث الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز -وهو واليه على المدينة-
يأمره بجلده مائة سوط ويحبسه، فجلده عمر مائة سوط، وبرَّد له ماءً في
جَرَّة ثم صَبَّه عليه في غداة باردة، فكزَّ فمات فيها. ثم ندم عمر بن عبد
العزيز على ذلك ندمًا شديدًا، فعندما بلغه نبأ وفاة خبيب فزع وسقط على
الأرض ثم رفع رأسه يسترجع، فلم يزل يُعرَف فيه حتى مات، واستعفى من
المدينة، وامتنع من الولاية، وكان كلما قيل: إنك صنعت كذا، فأبشر. يقول:
كيف بخبيب؟ ولم يزل يذكرها ويتصورها أمام عينيه حتى مات.
ومن الأدلة على صلاحه أثناء ولايته على المدينة، ما رواه أبو عمر مولى أسماء بنت أبي بكر
قال: أتيته في مجلسه الذي يصلي فيه الفجر، والمصحف في حجره، ودموعه تسيل
على لحيته، وكان عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة إذا أراد أن يجود
بالشيء، قال: ابتغوا أهل بيت بهم حاجة.
عمر بن عبد العزيز والبيت الأموي
يعد عمر بن عبد العزيز من العلماء الذين تميزوا بقربهم من الخلفاء، وكان
له أثر كبير في نصحهم وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة، ويحتل عمر بن عبد
العزيز مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عبد الملك يجلُّه ويُعجَب
بنباهته أثناء شبابه مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه، ويزوجه من ابنته،
ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه، واشتغاله بطلب
العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك
كتابًا يذكره فيه بالمسئولية الملقاة على عاتقه، وقد جاء فيه؛ أما بعد،
فإنك راعٍ، وكل راعٍ مسئول عن رعيته {اللَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ
رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87].
ويقال: إن عمر بن عبد العزيز ولاّه عمه عبد الملك خناصرة لكي يتدرب على
الأعمال القيادية في وقت مبكر، وقد قيل: إن سليمان بن عبد الملك هو الذي
ولاه على خناصرة، وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه وحزن عليه حزنًا
عظيمًا، وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك؛ فقال له: يا مسلمة، إني
حضرت أباك لما دُفِن، فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من أمر
الله راعني وهالني، فعاهدت الله ألاَّ أعمل بمثل عمله إن وليت، وقد
اجتهدتُ في ذلك.
عمر بن عبد العزيز والوليد بن عبد الملك
لقد حاول عمر بن عبد العزيز في عهد الوليد إصلاح بعض الأمور في الدولة
الإسلامية، فمن ذلك نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عُمَّاله في القتل، وقد
نجح في بادئ الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم
الخليفة، وموافقته على ذلك، فيذكر بن الحكم أن عمر بن عبد العزيز دخل على
الوليد بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عندي نصيحة، فإذا خلا لك
عقلك، واجتمع فهمك فسلني عنها. قال: ما يمنعك منها الآن؟ قال: أنت أعلم،
إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم. فمكث أيامً، ثم قال: يا غلام من
بالباب؟ فقيل له: ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز. فقال: أدخله. فدخل عليه،
فقال: نصيحتك يا أبا حفص. فقال عمر: إنه ليس بعد الشِّرك إثم أعظم عند الله
من الدم، وإن عمالك يقتلون، ويكتبون إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت
المسئول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يَقتُل أحد منهم أحدًا حتى يكتب
بذنبه، ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك. فقال: بارك الله
فيك يا أبا حفص، ومنع فقدَك. عليَّ بكتاب، فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم ومن
بينهم الحجَّاج، فشق ذلك على الحجاج، وظن أن الوليد لم يكتب إلى أحد غيره،
ثم سأل عن ذلك فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي أشار على الوليد بذلك.
فقال: هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره.
ثم إن الحجاج أرسل إلى أعرابي حروري -من الخوارج-
جافٍ من بكر بن وائل، ثم قال له الحجاج: ما تقول في معاوية؟ فنال منه،
قال: ما تقول في يزيد؟ فسبه، قال: فما تقول في عبد الملك؟ فظَلَّمه. قال:
فما تقول في الوليد؟ فقال: أَجْوَرُهم حين ولاّك، وهو يعلم عداءك وظلمك.
فسكت الحجاج وافترصها -انتهزها- منه، ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه: أنا
أحوط لديني، وأرعى لما استرعيتني، وأحفظ له من أن أقتل أحدًا لم يستوجب
ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي، فشأنك وإياه. فدخل
الحروري على الوليد، عنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم، فقال له الوليد: ما
تقول فيَّ؟ قال: ظالم جبار. قال: ما تقول في عبد الملك؟ قال: جبار عاتٍ.
قال: فما تقول في معاوية؟ قال: ظالم. فقال الوليد لابن الريان: اضرب عنقه.
فقال: يا غلام، اردد عليَّ عمر. فرده عليه، فقال: يا أبا حفص، ما تقول في
هذا: أصبنا أم أخطأنا؟
فقال عمر: ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب، كنت تسجنه حتى يراجع الله
أو تدركه مَنِيَّتُه. فقال الوليد: شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري؛
أفتستحل ذلك؟ فقال: لعمري ما أستحله، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه.
فقام الوليد مغضبًا، فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد
راددتَ أمير المؤمنين حتى ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك. وهكذا احتال الحجاج
على الوليد ليصرفه عن الأخذ برأي عمر بن عبد العزيز في الحدِّ من سرف
الحجاج وأمثاله في القتل.
عمر في عهد سليمان بن عبد الملك
في عهد سليمان بن عبد الملك تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير،
فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد تولي سليمان الخلافة قرَّب عمر بن
عبد العزيز، وأفسح له المجال واسعًا حيث قال: يا أبا حفص، إنا ولينا ما قد
ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمُرْ به، وجعله
وزيرًا ومستشارًا ملازمًا له في إقامته أو سفره. وكان سليمان يرى أنه محتاج
له في كل صغيرة وكبيرة، فكان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما
أجد أحدًا يفقه عني. وفي موضع آخر قال: يا أبا حفص، ما اغتممتُ بأمر، ولا
كربني أمر إلا خطرت فيه على بالي.
أسباب تقريب سليمان لعمر
والذي دفع سليمان إلى إفساح المجال أمام عمر بهذه الصورة، يعود إلى عدة أسباب منها:
1- شخصية سليمان بن عبد الملك: حيث لم يكن مثل أخيه الوليد معجبًا
بنفسه، معتدًّا برأيه، وواقعًا تحت تأثير بعض ولاته، بل كان سليمان على
العكس من ذلك غير معتد برأيه، خاليًا من التأثيرات الأخرى عليه.
2- اقتناع سليمان بما يتمتع به عمر من نظرات وآراء صائبة.
3- موقف عمر من محاولة الوليد لخلع سليمان؛ مما جعل سليمان يشكر ذاك
لعمر، وقد أشار لهذا الذهبي حيث قال بعد عرضه لموقف عمر: فلذلك شكر سليمان
عمر، وأعطاه الخلافة بعده.
تأثير عمر على سليمان في إصدار قرارات إصلاحية
لقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة من
أهمها: عزل ولاة الحجاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة خالد القسري،
ووالي المدينة عثمان بن حيان، ومنها الأمر بإقامة الصلاة في وقتها؛ فأورد
ابن عساكر أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان
كتب إلى الناس -عن رأي عمر-: إن الصلاة كانت قد أُمِيتت فأحيوها. وهناك
أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله: مع أمور أخرى جليلة يسمع من عمر فيها.
وَّج سليمان بن عبد الملك أعماله الصالحة بتولية عمر بن عبد العزيز الخلافة من بعده ما توسمه فيه من الصلاح والتقوى والميل إلى العدل.
والحق أن عمر لم يكن راغبًا في الخلافة، فيُروى أن عمر بن عبد العزيز
بعد أن فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك صعد المنبر، واجتمع الناس فقال:
"أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا
طِلْبةَ له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي
فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين،
ورضينا بك، فتولَّ أمرنا باليُمنِ والبركة. فلما رأى الأصوات قد هدأت، ورضي
به الناس جميعًا، حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وقال:" أوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خلف كل شيء، وليس من تقوى الله
خلف، واعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر
دنياه... ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس، من أطاع الله
وجبت طاعتُه، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت
الله فلا طاعة لي عليكم".
الحرص على العمل بالكتاب والسنة
من أهم ما يميز منهج عمر في سياسته، حرصه على العمل بالكتاب والسنة،
ونشر العلم بين رعيته، وتفقيههم في الدين وتعريفهم بالسنة، ومنطلق عمر في
ذلك فهمه لمهمة الخلافة، فهي حفظ الدين وسياسة الدنيا به، فهو يرى أن من
أهم واجباته تعريف رعيته بمبادئ دينهم، وحملهم على العمل بها، فورد عنه أنه
قال في إحدى خطبه: "إن للإسلام حدودًا وشرائع وسننًا، فمن عمل بها استكمل
الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فلئن أعش أعلمكموها وأحملكم
عليها، وإن أَمِتْ فما أنا على صحبتكم بحريص". وقال أيضًا: "فلو كانت كل
بدعة يُميتُها الله على يديَّ، وكل سُنَّة ينعشها الله على يدي ببضعة من
لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيرًا". وفي موضع آخر قال:
"والله لولا أن أنعش سُنَّة أو أسير بحق، ما أحببت أن أعيش فواقًا".
لهذا بادر عمر في تنفيذ هذه المسئولية المهمة، فبعث العلماء في تعليم
الناس وتثقيفهم إلى مختلف أقاليم الدولة، وفي حواضرها وبواديها وأمر
عُمَّاله على الأقاليم بحثِّ العلماء على نشر العلم، فقد جاء في كتابه الذي
بعث به إلى عماله: "ومُرْ أهل العلم والفقه من جندك فلينشروا ما علَّمهم
الله من ذلك، ليتحدثوا به في مجالسهم". ومما كتب به إلى بعض عماله: "أما
بعد، فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السُّنَّة كانت قد
أميتت". كما أمر عماله أن يجروا الرواتب على العلماء، ليتفرغوا لنشر العلم،
وانتدب العديد من العلماء لتفقيه الناس في الدين، فبعث يزيد بن أبي مالك
ليفقه بني نمير ويُقْرِئهم، وبعث نافع مولى ابن عمر إلى أهل مصر ليعلمهم
السنن، وكان قد بعث عشرة من الفقهاء إلى إفريقية يفقهون أهلها.
ولم تنحصر مهمة هؤلاء العلماء في التعليم فحسب، بل منهم من أسند إليه
بعض الولايات، ومنهم من تولى القضاء وأسهم أكثرهم -إضافةً إلى نشر العلم-
في مجال الدعوة والجهاد في سبيل الله، وهذا الاهتمام الذي تميز به منهج عمر
لتعليم الناس، وتفقيههم بأمور دينهم له أبعاد سياسية وآثار أمنية، ذلك أن
نشر الوعي الديني الصحيح والفقه بين أفراد الرعية له أثر في حماية عقول
أبناء الأمة من عبث الأفكار التي ينعكس خطرها على الاستقرار السياسي
والأمني، كأفكار الخوارج وغيرهم.
إقامة العدل لأهل سمرقند
عندما وصل خبر تولية عمر بن عبد العزيز الخلافة إلى سكان ما وراء النهر،
اجتمع أهل سمرقند، وقالوا لسليمان بن أبي السري: إن قتيبة غدر بنا، وظلمنا
وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف؛ فَأْذَن لنا فلْيَفِدْ منَّا
وفد إلى أمير المؤمنين، يشكو ظلامتنا، فإن كان لنا حق أُعطِينَاه، فإن بنا
إلى ذلك حاجة، فأذن لهم سليمان، فوجهوا منهم قومًا فقدموا على عمر، فكتب
لهم عمر إلى سليمان بن أبي السري: "إن أهل سمرقند قد شكوا إليَّ ظلمًا
أصابهم، وتحاملاً من قتيبة عليهم أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي،
فأَجْلِسْ لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم -يعني المسلمين
الغزاة- إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن يظهر عليهم قتيبة".
أية دولة في القرن الحادي والعشرين تحني رأسها هكذا للعدل كي يأخذ
مجراه، وللحق كي يعود إلى أصحابه؟ وأي حاكم في تاريخ الشعوب استجاب هكذا
لنداءات المظلومين الذين سُلِبَتْ حقوقهم، كهذه الاستجابة السريعة الحاسمة
من عمر بن عبد العزيز؟ إلا أنه المسئول الذي نذر نفسه للدفاع عن قيم الحق
والعدل في أقطار الأرض فبدونها تفقد شريعة الله مقوماتها وأهدافها العليا،
فهذا مثل رفيع من عدل عمر، وإننا لنلاحظ في هذه الخبرة عدة أمور:
- إن الناس يقبلون على التظلم والشكوى والمطالبة بالحقوق حينما يكون
الحكام عادلين؛ لأنهم يعلمون أن دعواهم ستؤخذ مأخذ الجد، وسسُنظر فيها
بعدل، فهؤلاء المتظلمون قد سكتوا على ما هم فيه من الشعور بالظلم طيلة
ولاية الوليد وسليمان، فلما رأوا عدل عمر بن عبد العزيز رفعوا قضيتهم.
- إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لم يمهل قضيتهم وإنما أحالها إلى
القضاء الشرعي، وهذا مثل من الخضوع للإسلام، والتجرد من هوى النفس، وكان
باستطاعته أن يفعل كثير من المسئولين، من إرسال خطابات الوعيد والتهديد
والبحث عن رءوس القوم وإجراء العقوبات المناسبة عليهم، ولكنه قد نذر نفسه
لرفع المظالم وإقرار العدالة، وذلك لا يكون إلا بحكم الشرع والتحكم إليه.
- إن أولئك القوم قد أسقط في أيديهم لما اطلعوا على كتاب أمير المؤمنين
عمر بن عبد العزيز، ورأى أهل الرأي منهم أنهم خاسرون في كلتا الحالتين،
سواء حُكِمَ لهم أو عليهم، وأن مصلحتهم في بقائهم على ما هم عليه، وبهذا
زال تظلمهم وشعروا بعدالة الحكم الإسلامي.
مسئولية الخلافة
كان عمر بن عبد العزيز يدرك عظم الأمانة الملقاة على عاتقه، وأنه مسئول
عن كل فرد في رعيته، فلذلك نجده دائم التفكير فيما يصلحهم فقد أهمه وقوفه
بين يدي ربه، وماذا يقول له إذا سأله عنهم يوم القيامة، فيذكر ابن كثير:
أن زوجته فاطمة بنت عبد الملك دخلت يومًا عليه وهو جالس في مصلاه واضعًا
خده على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقالت له: ما لك؟ فقال: ويحك يا فاطمة!
قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض
الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم
المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال
القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد ؛ فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت.
الرفق بالرعية
كان عمر بن عبد العزيز يقول: إن أحب الأمور إلى الله القصد في الجد،
والعفو في المقدرة، والرفق في الولاية، وما رفق عبد بعبد في الدنيا إلا رفق
الله به يوم القيامة، فيُروى أنه خرج ابن له وهو صغير يلعب مع الغلمان
فشجَّه صبي منهم، فاحتملوا الصبي الذي شج ابنه وجاءوا به إلى عمر، فسمع
الجلبة فخرج إليهم، فإذا مُرَيْئَة تقول: إنه ابني وإنه يتيم. فقال لها
عمر: هوِّني عليك، ثم قل لها: أله عطاء في الديوان؟ فقالت: لا. فقال:
اكتبوه في الذرية. فقالت زوجته فاطمة: أتفعل هذا به وقد شج ابنك؟ فعل الله
به وفعل، المرة الأخرى يشج ابنك ثانية. فقال: ويحك! إنه يتيم وقد أفزعتموه.
هذه هي أهم السمات العامة التي اتصف بها حكم الخليفة الأموي عمر بن عبد
العزيز -رحمه الله- الرفق والعدل، ونشر الشريعة الإسلامية بين الرعية قولاً
وعملاً.
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن
عبد مناف، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير
المؤمنين حقًا أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الراشد
أشج بني أمية، كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين، وكان حسن
الأخلاق والخَلْق، كامل العقل، حسن السّمت، جيد السياسة، حريصًا على العدل
بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاهًا مُنيبًا
قانتًا لله حنيفًا، زاهدًا مع الخلافة، ناطقًا بالحق مع قِلَّة المعين،
وكثرة الأمراء الظلمة الذين مَلُّوه وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أعطياتهم،
وأخذه كثيرًا مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حق، فما زالوا به حتى سَقَوْه
السم، فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُدَّ عند أهل العلم من الخلفاء
الراشدين والعلماء العاملين، وكان -رحمه الله- فصيحًا مفوهًا.
والد عمر بن عبد العزيز:
هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من خيار أمراء بني أمية، شجاعًا
كريمًا، بقي أميرًا لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه
أنه لما أراد الزواج قال لقَيِّمِه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي؛
فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح. فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب t،
وهي حفيدة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقيل: اسمها ليلى، كما أن زواجه
من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحسن سيرته وخلقه، فقد كان حسن
السيرة في شبابه، فضلاً عن التزامه وحرصه عل تحصيل العلم واهتمامه
بالحديث النبوي الشريف، فقد جلس إلى أبي هريرة وغيره من الصحابة وسمع
منهم، وقد واصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مُرَّة
في الشام أن يبعث إليه ما يسمعه من حديث رسول الله r إلا ما كان من طريق أبي هريرة فإنه عنده.
أم عمر بن عبد العزيز:
أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب t،
ووالدها عاصم بن عمر بن الخطاب، كان من نبلاء الرجال خيرًا صالحًا بليغًا
شاعرًا فصيحًا، وهو جد الخليفة عمر بن عبد العزيز لأمه، مات سنة 70هـ.
أما جدته لأمه فقد كان لها موقف مشهور مع عمر بن الخطاب t؛ فيُروَى عن عبد الله بن الزبير بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال: بينما أنا وعمر بن الخطاب t
وهو يعس بالمدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة
تقول لابنتها: يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. فقالت لها:
يا أمتاه، أوَما علمت ما كان من أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من
عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديًا، فنادى أن لا يُشابَ اللبنُ بالماء.
فقالت لها: يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء؛ فإنك بموضع لا يراك
عمر، ولا منادي عمر. فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه، واللهِ ما كنتُ
لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء. وعمر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم،
عَلِّمِ الباب واعرف الموضع، ثم مضى في عسِّه.
فلما أصبحا قال: يا أسلم، امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن
المقول لها، وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيِّم لا
بعل لها، وإذا تيك أمها، وإذا ليس لها رجل، فأتيت عمر فأخبرته، فدعا عمر
ولده، فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أُزوِّجه؟ فقال عاصم: يا
أبتاه، لا زوجة لي فزوجني. فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم
بنتًا ولدت البنتُ عمر بن عبد العزيز.
ويُذكر أن عمر بن الخطاب t رأي ذات ليلة رؤيا، فقال: ليت شعري من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلاً كما ملئت جورًا؟!
مولد عمر بن عبد العزيز:
اختلف المؤرخون في سنة مولده والراجح أنه ولد عام 61هـ، وهو قول أكثر المؤرخين بالمدينة.
لقب عمر بن عبد العزيز:
كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يُلقّبُ بالأشج، وكان يقال له: أشج
بني مروان، وذلك أن عمر بن عبد العزيز كان كان صغيرًا دخل إلى إصطبل أبيه
عندما كان واليًا على مصر ليرى الخيل، فضربه فرس في وجهه فشجه فجعل أبوه
يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذًا لسعيد. ولما رأى أخوه
الأصبغ الأثر قال: الله أكبر! هذا أشج بني مروان الذي يملك، وكان الفاروق
عمر يقول: إن من ولدي رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً. وكان الفاروق قد
رأى رؤيا تشير إلى ذلك، وقد تكررت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر
مشهورًا عند الناس، بدليل ما قاله أبوه عندما رأى الدم في وجهه، وما قاله
أخوه عندما رأى الشج في وجهه، كلاهما تفاءل لعله أن يكون ذلك الأشج الذي
يملأ الأرض عدلاً.
زوجات عمر بن عبد العزيز:
نشأ عمر بالمدينة وتخلق بأخلاق أهلها وتأثر بعلمائها، وأكبَّ على أخذ
العلم من شيوخها، وكان يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابها، وما زال ذلك
دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان
فخلطه بولده، وقدَّمه على كثير منهم، وزَوَّجَه ابنته فاطمة بنت عبد
الملك، وهي امرأة صالحة تأثرت كثيرًا بعمر بن عبد العزيز، وآثَرَت ما عند
الله على متاع الدنيا، وهي التي قال فيها الشاعر:
بنت الخليفة والخليفة جدها *** أخت الخلائف والخليفة زوجها
ومن زوجاته -أيضًا- لميس بنت الحارث، وأم عثمان بنت شعيب بن زبان.
تكوينه الشخصي
1- الواقع الأسري:
نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة، فلما شَبَّ وعقل -وهو غلام صغير-
كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه
فيقول: يا أُمَّه، أنا أحب أن أكون مثل خالي. يريد عبد الله بن عمر،
فتؤفِّف به، ثم تقول له: اغْرُب، أنت تكون مثل خالك. وتكرر عليه ذلك غير
مرة، فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميرًا عليها، ثم كتب
إلى زوجته أم عاصم أن تَقْدُم عليه بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر
فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها، فقال لها: يا ابنة أخي، هو زوجك
فالحقي به. فلما أرادت الخروج قال لها: خلفي هذا الغلام عندنا -يريد عمر
بن عبد العزيز- فإنه أشبهكم بنا أهل البيت. فخلفته عنده ولم تخالفه.
فلما قدمت على عبد العزيز، سألها عن عمر ابنه، فأخبرته الخبر، فسُرَّ
بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن
يُجرَى عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مُسلِّمًا.
وهكذا تربى عمر -رحمه الله- بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر بن عبد الخطاب t، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة.
2- إقباله المبكر على طلب العلم وحفظه القرآن الكريم:
لقد رزق عمر بن العزيز منذ صغره حب الإقبال على طلب العلم وحب المطالعة
والمذاكرة بين العلماء، كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم، في المدينة
وكانت يومئذٍ منارة العلم والصلاح زاخرة بالعلماء والفقهاء والصالحين،
وتاقت نفسه للعلم وهو صغير، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز
حرصه على العلم ورغبته في الأدب، وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير،
وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب
العلم والحفظ.
وقد تأثر كثيرًا بالقرآن الكريم في نظرته لله U
والحياة والكون والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الموت، وكان يبكي
لذكر الموت بالرغم من حداثة سنه، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت: ما
يبكيك؟ قال: ذكرت الموت. فبكت أمه حين بلغها ذلك. وقد عاش طيلة حياته مع
كتاب الله U متدبرًا، ومنفذًا لأوامره، ومن مواقفه مع القرآن الكريم: ما روي أن رجلاً قرأ عنده وهو أمير المدينة يومئذ {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13]. فبكى عمر حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه؛ فقام من مجلسه فدخل بيته وتفرَّق الناس.
3- الواقع الاجتماعي:
إن البيئة الاجتماعية المحيطة لها دور فعال ومهم في صناعة الرجال وبناء
شخصيتهم، فعمر بن عبد العزيز عاش في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والصلاح
والإقبال على طلب العلم، والعمل بالكتاب والسنة، فقد كان عدد من الصحابة ما
زالوا بالمدينة، فقد حدَّث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن
يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحًا شرب منه النبي r وأمّ أنس بن مالك، فقال: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله r من هذا الفتى.
فكان للإقامة بالمدينة آثار نفسية، ومعان إيمانية وتعلق روحي، وكان
لذلك المجتمع أثره في صياغة شخصية عمر بن عبد العزيز العلمية والتربوية.
4- تربيته على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها:
اختار عبد العزيز -والد عمر- صالح بن كيسان ليكون مربيًا لعمر بن عبد
العزيز، فتولى صالح تأديبه، وكان يلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد،
فحدث يومًا أن تأخر عمر بن عبد العزيز عن الصلاة مع الجماعة، فقال صالح بن
كيسان: ما يشغلك؟ قال: كانت مُرَجِّلَتي -مُسَرِّحة شعري- تُسَكِّن شعري،
فقال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز
يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حَلَقَ رأسه، وكان عمر حريصًا
على التشبه برسول الله r أشد الحرص فكان يتم
الركوع والسجود، ويخفف القيام، والقعود، وفي رواية صحيحة أنه كان يسبح في
الركوع والسجود عشرًا عشرًا، ولما حج أبوه ومر بالمدينة سأل صالح بن كيسان
عن ابنه فقال: ما خَبرتُ أحدًا اللهُ أعظم في صدره من هذا الغلام.
ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم عبيد الله بن عبد الله بن
عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجلُّه كثيرًا، ونهل من علمه وتأدب بأدبه،
وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة
التردد إلى مجلسه، فقال: لمجلس من الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
بن مسعود أحب إليَّ من ألف دينار. وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما
عند شيخه من علم غزير: لو كان عبيد الله حيًّا ما صدرت إلا عن رأيه،
ولوددت أن لي بيوم واحد من عُبيد الله كذا وكذا. وكان عبيد الله مفتي
المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة، قال عنه الزهري: كان عبيد الله بن
عبد الله بحرًا من بحور العلم، كما كان يقرض الشعر، فقد كتب إلى عمر بن
عبد العزيز هذه الأبيات:
باسم الله أنزلت من عنـده السـور *** والحمد لله أما بعد يا عــمرُ
إن كنت تعـلم ما تأتي وما تـذر *** فكن على حذر قد ينفع الحذرُ
واصبر على القدر المحتوم وارضَ به *** وإن أتـاك بما لا تشتهي القدرُ
فما صفا لامرئ عيش يُســرُّ به *** إلا سـيتبع يومًا صفوَه كـدرُ
وقد توفي هذا العالم الجليل سنة 98هـ، وقيل: 99هـ.
ومن شيوخ عمر: سعيد بن المسيب، وكان سعيد لا يأتي أحدًا من الأمراء غير عمر، ومن شيوخه أيضًا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب
الذي قال فيه سعيد بن المسيب: كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به، وكان
سالم أشبه ولد عبد الله به، وقال عنه الإمام مالك: لم يكن أحد في زمان
سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه.
وتربى وتعلم عمر بن عبد العزيز على أيدي كثير من العلماء والفقهاء، وقد
بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين، ثمانية منهم من الصحابة،
وخمسة وعشرون من التابعين؛ فقد نهل من علمهم، وتأدب بأدبهم، ولازم مجالسهم
حتى ظهرت آثار هذه التربية في أخلاقه وتصرفاته، فامتاز بصلابة الشخصية،
والجدية والحزم في معالجة الأمور، وإمعان الفكر وإدامة النظر في القرآن،
والإرادة القوية والترفع عن الهزل والمزاح.
هذه هي أهم العوامل التي أثرت في تكوين شخصيته، ومن الدروس المستفادة،
أن العلماء الربانيين يقع على عاتقهم مسئولية كبيرة، وهي الاهتمام بأولاد
الأمراء والحكام، وأهل الجاه والمال؛ ففي صلاحهم خير عظيم للأمة
الإسلامية.
مكانته العلمية:
اتفقت كلمة المترجمين له على أنه من أئمة زمانه، فقد أطلق عليه كل من
الإمامين مالك وسفيان بن عيينة وصف إمام. وقال عنه مجاهد: أتيناه نعلمه،
فما برحنا حتى تعلمنا منه. وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز
معلم العلماء.
وقال عنه الذهبي: كان إمامًا فقيهًا مجتهدًا عارفًا بالسنن، كبير الشأن
حافظًا قانتًا لله، أوَّاهًا منيبًا، يُعَدُّ في حُسن السيرة والقيام
بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري، وقد احتج العلماء والفقهاء بقوله وفعله.
وقال عنه الإمام أحمد: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز، ويذكر محاسنه وينشرها؛ فاعلم أن من وراء ذلك خيرًا إن شاء الله.
وهكذا نجد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قد نشأ محبًّا للعلم
وللعلماء، متأسيًا بهم وبأعمالهم، الأمر الذي جعل كافة أطياف المجتمع
الإسلامي تجلُّه وتحترمه وتحبه، وحتى من أتوا بعده من العلماء والعامة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]في ربيع الأول من عام 87هـ أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك بتكليف عمر بن عبد العزيز
بإمارة المدينة المنورة، ثم ضمَّ إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، وبذلك صار
واليًا على الحجاز كلها، واشترط عمر لتوليته الإمارة الثالثة شروطًا:
الشرط الأول: أن يعمل
في الناس بالحق والعدل، ولا يظلم أحدًا، ولا يجور على أحدٍ في أخذ ما على
الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يَقِلَّ ما يرفع للخليفة من
الأموال من المدينة.
الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة؛ لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
الشرط الثالث: أن
يُسمح له بالعطاء أن يخرجه للناس في المدينة، فوافق الوليد على هذه الشروط،
وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة، وفرح الناس به فرحًا شديدًا.
مجلس شورى عمر) (مجلس فقهاء المدينة العشرة))
كان من أبرز الأعمال التي قام بها عمر بن عبد العزيز تكوينه لمجلس
الشورى بالمدينة، فعندما جاء الناس للسلام عليه، دعا بعشرة من فقهاء
المدينة وهم: عروة بن الزبير،
وعبيد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر
بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد
الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن
ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه
بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تُؤجَرون عليه وتكونون فيه أعوانًا
على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن
رأيتم أحدًا يتعدَّى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرِّج اللهَ على من
بلغه ذلك إلا أبلغني.
لقد كان عمر بن الخطاب t يجمع المجلس للأمر يطرأ، فيرى ضرورة الشورى فيه، أما عمر بن عبد العزيز فقد أحدث مجلسًا حدد صلاحياته بأمرين:
1- أنهم أصحاب الحق في تقرير الرأي، وأنه لا يقطع أمرًا إلا برأيهم،
وبذلك يكون الأمير قد تخلى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس، الذي نسميه (مجلس
العشرة).
2- أنه جعلهم مفتشين على العمال، ورقباء فإذا ما اتصل بعلمهم أو بعلم
أحدهم أن عاملاً ارتكب ظلامة فعليهم أن يبلغوه، وإلاَّ فقد استعدى الله على
كاتم الحق.
ونلاحظ أيضًا أن هذا التدبير قد تضمن أمرين:
1- أحدهما: أن الأمير
عمر بن عبد العزيز لم يخصص تعويضًا لمجلس العشرة لأنهم كانوا من أصحاب
العطاء، وبما أنهم فقهاء فما ندبهم إليه داخل في صلب اختصاصاتهم.
2- الثاني: أن عمر افترض غياب أحدهم عن الحضور لعذر من الأعذار، ولهذا لم يشترط مع تدبيره حضورهم كلهم، وإنما قال: "أو برأي من حضر منكم".
إن هذا المجلس كان يُستشار في جميع الأمور دون استثناء.
ونستنتج من هذه القضية أهمية العلماء الربانيين، وعلو مكانتهم، وأنه يجب
على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهم منه، ويشاورهم في أمور الرعية، كما أنه
على العلماء أن يلتفوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر
ممكن من المصالح، وتقليل ما يمكن من المفاسد، كما أن عمر بن عبد العزيز لم
يقتصر في الشورى على هؤلاء فحسب، بل كان يستشير غيرهم من علماء المدينة،
كسعيد بن المسيب والزهري وغيرهما، وكان لا يقضي في قضاء حتى يسأل سعيد.
وفي المدينة أظهر عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إجلاله للعلماء وإكباره
لهم وقد حدث أن أرسل رحمه الله تعالى رسولاً إلى سعيد بن المسيب يسأله عن
مسألة، وكان سعيد لا يأتي أميرًا ولا خليفة فأخطأ الرسول؛ فقال له: الأمير
يدعوك، فأخذ سعيد وقام إليه في وقته، فلما رآه عمر، قال له: عزمتُ عليك يا
أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله
ليدعوك، ولكنه أخطأ، إنما أرسلناه ليسألك.
وفي إمارته على المدينة المنورة وَسَّعَ مسجد رسول الله
بأمر من الوليد بن عبد الملك حتى جعله مائتي ذراع في مائتي ذراع، وزخرفه
-أيضًا- بأمر الوليد، مع أنه يرحمه الله كان يكره زخرفة المساجد، ويتضح من
موقف عمر بن عبد العزيز هنا أنه قد يضطر الوالي للتجاوب مع قراراتِ مَن هو
أعلى منه حتى وإن كان غير مقتنع بها، إذا قدر أن المصلحة في ذلك أكبر من
وجوه أخرى. وفي إمارته على المدينة سنة 91هـ حَجَّ الخليفة الوليد بن عبد
الملك، فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه
الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة.
نقطة تحول
إن الصديق الصالح المخلص الذي دائمًا يتعاهدك بالنصح والتذكير، لهو نعمة
مَنَّ الله بها عليك، ودليل على رضاء الله عليك، ومحبته لك، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
كان من فضل الله على عمر بن عبد العزيز أن أحاطه بصحبة طيبة دائمًا
تذكره بالله عند الغفلة، فيُروَى: أن عمر بن عبد العزيز حبس رجلاً فجاوز في
حبسه القدر الذي يجب عليه، فكلمه مزاحم في إطلاقه، فقال عمر: ما أنا
بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه بما هو أكثر مما مَرَّ عليه. فقال مزاحم:
يا عمر بن عبد العزيز، إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة، في صبيحتها تقوم
الساعة، يا عمر! ولقد كدت أنسى اسمك مما أسمع: قال الأمير، قال الأمير.
فقال عمر: فواللهِ ما هو إلا أن قال ذلك، فكأنما كشف عن وجهي غطاء.
ومنذ هذه اللحظة بدأت حياة عمر بن عبد العزيز في التحوُّل.
عمر بن عبد العزيز وخبيب بن عبد الله بن الزبير
ظلَّ عمر بن عبد العزيز واليًا على المدينة حوالي ست سنوات كان فيها
موضع الرضا من أهلها، وقد أقام الحج أثناء ولايته عدة مرات، وكان عمر يعتبر
فترة ولايته على المدينة من أسعد أيام حياته، ولم يعكر صفو أيامه هذه إلا
حادثة خبيب بن عبد الله بن الزبير؛ فيروى أن خبيب بن عبد الله حدَّث عن
النبي أنه قال: "إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً".
فبعث الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز -وهو واليه على المدينة-
يأمره بجلده مائة سوط ويحبسه، فجلده عمر مائة سوط، وبرَّد له ماءً في
جَرَّة ثم صَبَّه عليه في غداة باردة، فكزَّ فمات فيها. ثم ندم عمر بن عبد
العزيز على ذلك ندمًا شديدًا، فعندما بلغه نبأ وفاة خبيب فزع وسقط على
الأرض ثم رفع رأسه يسترجع، فلم يزل يُعرَف فيه حتى مات، واستعفى من
المدينة، وامتنع من الولاية، وكان كلما قيل: إنك صنعت كذا، فأبشر. يقول:
كيف بخبيب؟ ولم يزل يذكرها ويتصورها أمام عينيه حتى مات.
ومن الأدلة على صلاحه أثناء ولايته على المدينة، ما رواه أبو عمر مولى أسماء بنت أبي بكر
قال: أتيته في مجلسه الذي يصلي فيه الفجر، والمصحف في حجره، ودموعه تسيل
على لحيته، وكان عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة إذا أراد أن يجود
بالشيء، قال: ابتغوا أهل بيت بهم حاجة.
عمر بن عبد العزيز والبيت الأموي
يعد عمر بن عبد العزيز من العلماء الذين تميزوا بقربهم من الخلفاء، وكان
له أثر كبير في نصحهم وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة، ويحتل عمر بن عبد
العزيز مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عبد الملك يجلُّه ويُعجَب
بنباهته أثناء شبابه مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه، ويزوجه من ابنته،
ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه، واشتغاله بطلب
العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك
كتابًا يذكره فيه بالمسئولية الملقاة على عاتقه، وقد جاء فيه؛ أما بعد،
فإنك راعٍ، وكل راعٍ مسئول عن رعيته {اللَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ
رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87].
ويقال: إن عمر بن عبد العزيز ولاّه عمه عبد الملك خناصرة لكي يتدرب على
الأعمال القيادية في وقت مبكر، وقد قيل: إن سليمان بن عبد الملك هو الذي
ولاه على خناصرة، وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه وحزن عليه حزنًا
عظيمًا، وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك؛ فقال له: يا مسلمة، إني
حضرت أباك لما دُفِن، فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من أمر
الله راعني وهالني، فعاهدت الله ألاَّ أعمل بمثل عمله إن وليت، وقد
اجتهدتُ في ذلك.
عمر بن عبد العزيز والوليد بن عبد الملك
لقد حاول عمر بن عبد العزيز في عهد الوليد إصلاح بعض الأمور في الدولة
الإسلامية، فمن ذلك نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عُمَّاله في القتل، وقد
نجح في بادئ الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم
الخليفة، وموافقته على ذلك، فيذكر بن الحكم أن عمر بن عبد العزيز دخل على
الوليد بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عندي نصيحة، فإذا خلا لك
عقلك، واجتمع فهمك فسلني عنها. قال: ما يمنعك منها الآن؟ قال: أنت أعلم،
إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم. فمكث أيامً، ثم قال: يا غلام من
بالباب؟ فقيل له: ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز. فقال: أدخله. فدخل عليه،
فقال: نصيحتك يا أبا حفص. فقال عمر: إنه ليس بعد الشِّرك إثم أعظم عند الله
من الدم، وإن عمالك يقتلون، ويكتبون إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت
المسئول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يَقتُل أحد منهم أحدًا حتى يكتب
بذنبه، ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك. فقال: بارك الله
فيك يا أبا حفص، ومنع فقدَك. عليَّ بكتاب، فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم ومن
بينهم الحجَّاج، فشق ذلك على الحجاج، وظن أن الوليد لم يكتب إلى أحد غيره،
ثم سأل عن ذلك فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي أشار على الوليد بذلك.
فقال: هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره.
ثم إن الحجاج أرسل إلى أعرابي حروري -من الخوارج-
جافٍ من بكر بن وائل، ثم قال له الحجاج: ما تقول في معاوية؟ فنال منه،
قال: ما تقول في يزيد؟ فسبه، قال: فما تقول في عبد الملك؟ فظَلَّمه. قال:
فما تقول في الوليد؟ فقال: أَجْوَرُهم حين ولاّك، وهو يعلم عداءك وظلمك.
فسكت الحجاج وافترصها -انتهزها- منه، ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه: أنا
أحوط لديني، وأرعى لما استرعيتني، وأحفظ له من أن أقتل أحدًا لم يستوجب
ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي، فشأنك وإياه. فدخل
الحروري على الوليد، عنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم، فقال له الوليد: ما
تقول فيَّ؟ قال: ظالم جبار. قال: ما تقول في عبد الملك؟ قال: جبار عاتٍ.
قال: فما تقول في معاوية؟ قال: ظالم. فقال الوليد لابن الريان: اضرب عنقه.
فقال: يا غلام، اردد عليَّ عمر. فرده عليه، فقال: يا أبا حفص، ما تقول في
هذا: أصبنا أم أخطأنا؟
فقال عمر: ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب، كنت تسجنه حتى يراجع الله
أو تدركه مَنِيَّتُه. فقال الوليد: شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري؛
أفتستحل ذلك؟ فقال: لعمري ما أستحله، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه.
فقام الوليد مغضبًا، فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد
راددتَ أمير المؤمنين حتى ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك. وهكذا احتال الحجاج
على الوليد ليصرفه عن الأخذ برأي عمر بن عبد العزيز في الحدِّ من سرف
الحجاج وأمثاله في القتل.
عمر في عهد سليمان بن عبد الملك
في عهد سليمان بن عبد الملك تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير،
فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد تولي سليمان الخلافة قرَّب عمر بن
عبد العزيز، وأفسح له المجال واسعًا حيث قال: يا أبا حفص، إنا ولينا ما قد
ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمُرْ به، وجعله
وزيرًا ومستشارًا ملازمًا له في إقامته أو سفره. وكان سليمان يرى أنه محتاج
له في كل صغيرة وكبيرة، فكان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما
أجد أحدًا يفقه عني. وفي موضع آخر قال: يا أبا حفص، ما اغتممتُ بأمر، ولا
كربني أمر إلا خطرت فيه على بالي.
أسباب تقريب سليمان لعمر
والذي دفع سليمان إلى إفساح المجال أمام عمر بهذه الصورة، يعود إلى عدة أسباب منها:
1- شخصية سليمان بن عبد الملك: حيث لم يكن مثل أخيه الوليد معجبًا
بنفسه، معتدًّا برأيه، وواقعًا تحت تأثير بعض ولاته، بل كان سليمان على
العكس من ذلك غير معتد برأيه، خاليًا من التأثيرات الأخرى عليه.
2- اقتناع سليمان بما يتمتع به عمر من نظرات وآراء صائبة.
3- موقف عمر من محاولة الوليد لخلع سليمان؛ مما جعل سليمان يشكر ذاك
لعمر، وقد أشار لهذا الذهبي حيث قال بعد عرضه لموقف عمر: فلذلك شكر سليمان
عمر، وأعطاه الخلافة بعده.
تأثير عمر على سليمان في إصدار قرارات إصلاحية
لقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة من
أهمها: عزل ولاة الحجاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة خالد القسري،
ووالي المدينة عثمان بن حيان، ومنها الأمر بإقامة الصلاة في وقتها؛ فأورد
ابن عساكر أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان
كتب إلى الناس -عن رأي عمر-: إن الصلاة كانت قد أُمِيتت فأحيوها. وهناك
أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله: مع أمور أخرى جليلة يسمع من عمر فيها.
وَّج سليمان بن عبد الملك أعماله الصالحة بتولية عمر بن عبد العزيز الخلافة من بعده ما توسمه فيه من الصلاح والتقوى والميل إلى العدل.
والحق أن عمر لم يكن راغبًا في الخلافة، فيُروى أن عمر بن عبد العزيز
بعد أن فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك صعد المنبر، واجتمع الناس فقال:
"أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا
طِلْبةَ له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي
فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين،
ورضينا بك، فتولَّ أمرنا باليُمنِ والبركة. فلما رأى الأصوات قد هدأت، ورضي
به الناس جميعًا، حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وقال:" أوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خلف كل شيء، وليس من تقوى الله
خلف، واعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر
دنياه... ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس، من أطاع الله
وجبت طاعتُه، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت
الله فلا طاعة لي عليكم".
الحرص على العمل بالكتاب والسنة
من أهم ما يميز منهج عمر في سياسته، حرصه على العمل بالكتاب والسنة،
ونشر العلم بين رعيته، وتفقيههم في الدين وتعريفهم بالسنة، ومنطلق عمر في
ذلك فهمه لمهمة الخلافة، فهي حفظ الدين وسياسة الدنيا به، فهو يرى أن من
أهم واجباته تعريف رعيته بمبادئ دينهم، وحملهم على العمل بها، فورد عنه أنه
قال في إحدى خطبه: "إن للإسلام حدودًا وشرائع وسننًا، فمن عمل بها استكمل
الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فلئن أعش أعلمكموها وأحملكم
عليها، وإن أَمِتْ فما أنا على صحبتكم بحريص". وقال أيضًا: "فلو كانت كل
بدعة يُميتُها الله على يديَّ، وكل سُنَّة ينعشها الله على يدي ببضعة من
لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيرًا". وفي موضع آخر قال:
"والله لولا أن أنعش سُنَّة أو أسير بحق، ما أحببت أن أعيش فواقًا".
لهذا بادر عمر في تنفيذ هذه المسئولية المهمة، فبعث العلماء في تعليم
الناس وتثقيفهم إلى مختلف أقاليم الدولة، وفي حواضرها وبواديها وأمر
عُمَّاله على الأقاليم بحثِّ العلماء على نشر العلم، فقد جاء في كتابه الذي
بعث به إلى عماله: "ومُرْ أهل العلم والفقه من جندك فلينشروا ما علَّمهم
الله من ذلك، ليتحدثوا به في مجالسهم". ومما كتب به إلى بعض عماله: "أما
بعد، فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السُّنَّة كانت قد
أميتت". كما أمر عماله أن يجروا الرواتب على العلماء، ليتفرغوا لنشر العلم،
وانتدب العديد من العلماء لتفقيه الناس في الدين، فبعث يزيد بن أبي مالك
ليفقه بني نمير ويُقْرِئهم، وبعث نافع مولى ابن عمر إلى أهل مصر ليعلمهم
السنن، وكان قد بعث عشرة من الفقهاء إلى إفريقية يفقهون أهلها.
ولم تنحصر مهمة هؤلاء العلماء في التعليم فحسب، بل منهم من أسند إليه
بعض الولايات، ومنهم من تولى القضاء وأسهم أكثرهم -إضافةً إلى نشر العلم-
في مجال الدعوة والجهاد في سبيل الله، وهذا الاهتمام الذي تميز به منهج عمر
لتعليم الناس، وتفقيههم بأمور دينهم له أبعاد سياسية وآثار أمنية، ذلك أن
نشر الوعي الديني الصحيح والفقه بين أفراد الرعية له أثر في حماية عقول
أبناء الأمة من عبث الأفكار التي ينعكس خطرها على الاستقرار السياسي
والأمني، كأفكار الخوارج وغيرهم.
إقامة العدل لأهل سمرقند
عندما وصل خبر تولية عمر بن عبد العزيز الخلافة إلى سكان ما وراء النهر،
اجتمع أهل سمرقند، وقالوا لسليمان بن أبي السري: إن قتيبة غدر بنا، وظلمنا
وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف؛ فَأْذَن لنا فلْيَفِدْ منَّا
وفد إلى أمير المؤمنين، يشكو ظلامتنا، فإن كان لنا حق أُعطِينَاه، فإن بنا
إلى ذلك حاجة، فأذن لهم سليمان، فوجهوا منهم قومًا فقدموا على عمر، فكتب
لهم عمر إلى سليمان بن أبي السري: "إن أهل سمرقند قد شكوا إليَّ ظلمًا
أصابهم، وتحاملاً من قتيبة عليهم أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي،
فأَجْلِسْ لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم -يعني المسلمين
الغزاة- إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن يظهر عليهم قتيبة".
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]فأجلس
سليمانُ جُمَيعَ بن حاضر القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم
وينابذوهم على سواء، فيكون صلحًا جديدًا أو ظفرًا عنوة، فقال أهل الصغد
-قوم يسكنون بعض بلاد ما وراء النهر-: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربًا.
وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم،
وأَمَّنُونا وأَمِنَّاهم، فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب، ولا ندري لمن يكون
الظفر، وإن لم يكن لنا اجتلبنا عداوة في المنازعة. فتركوا الأمر على ما
كان، ورضوا ولم ينازعوا.
سليمانُ جُمَيعَ بن حاضر القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم
وينابذوهم على سواء، فيكون صلحًا جديدًا أو ظفرًا عنوة، فقال أهل الصغد
-قوم يسكنون بعض بلاد ما وراء النهر-: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربًا.
وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم،
وأَمَّنُونا وأَمِنَّاهم، فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب، ولا ندري لمن يكون
الظفر، وإن لم يكن لنا اجتلبنا عداوة في المنازعة. فتركوا الأمر على ما
كان، ورضوا ولم ينازعوا.
أية دولة في القرن الحادي والعشرين تحني رأسها هكذا للعدل كي يأخذ
مجراه، وللحق كي يعود إلى أصحابه؟ وأي حاكم في تاريخ الشعوب استجاب هكذا
لنداءات المظلومين الذين سُلِبَتْ حقوقهم، كهذه الاستجابة السريعة الحاسمة
من عمر بن عبد العزيز؟ إلا أنه المسئول الذي نذر نفسه للدفاع عن قيم الحق
والعدل في أقطار الأرض فبدونها تفقد شريعة الله مقوماتها وأهدافها العليا،
فهذا مثل رفيع من عدل عمر، وإننا لنلاحظ في هذه الخبرة عدة أمور:
- إن الناس يقبلون على التظلم والشكوى والمطالبة بالحقوق حينما يكون
الحكام عادلين؛ لأنهم يعلمون أن دعواهم ستؤخذ مأخذ الجد، وسسُنظر فيها
بعدل، فهؤلاء المتظلمون قد سكتوا على ما هم فيه من الشعور بالظلم طيلة
ولاية الوليد وسليمان، فلما رأوا عدل عمر بن عبد العزيز رفعوا قضيتهم.
- إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لم يمهل قضيتهم وإنما أحالها إلى
القضاء الشرعي، وهذا مثل من الخضوع للإسلام، والتجرد من هوى النفس، وكان
باستطاعته أن يفعل كثير من المسئولين، من إرسال خطابات الوعيد والتهديد
والبحث عن رءوس القوم وإجراء العقوبات المناسبة عليهم، ولكنه قد نذر نفسه
لرفع المظالم وإقرار العدالة، وذلك لا يكون إلا بحكم الشرع والتحكم إليه.
- إن أولئك القوم قد أسقط في أيديهم لما اطلعوا على كتاب أمير المؤمنين
عمر بن عبد العزيز، ورأى أهل الرأي منهم أنهم خاسرون في كلتا الحالتين،
سواء حُكِمَ لهم أو عليهم، وأن مصلحتهم في بقائهم على ما هم عليه، وبهذا
زال تظلمهم وشعروا بعدالة الحكم الإسلامي.
مسئولية الخلافة
كان عمر بن عبد العزيز يدرك عظم الأمانة الملقاة على عاتقه، وأنه مسئول
عن كل فرد في رعيته، فلذلك نجده دائم التفكير فيما يصلحهم فقد أهمه وقوفه
بين يدي ربه، وماذا يقول له إذا سأله عنهم يوم القيامة، فيذكر ابن كثير:
أن زوجته فاطمة بنت عبد الملك دخلت يومًا عليه وهو جالس في مصلاه واضعًا
خده على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقالت له: ما لك؟ فقال: ويحك يا فاطمة!
قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض
الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم
المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال
القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد ؛ فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت.
الرفق بالرعية
كان عمر بن عبد العزيز يقول: إن أحب الأمور إلى الله القصد في الجد،
والعفو في المقدرة، والرفق في الولاية، وما رفق عبد بعبد في الدنيا إلا رفق
الله به يوم القيامة، فيُروى أنه خرج ابن له وهو صغير يلعب مع الغلمان
فشجَّه صبي منهم، فاحتملوا الصبي الذي شج ابنه وجاءوا به إلى عمر، فسمع
الجلبة فخرج إليهم، فإذا مُرَيْئَة تقول: إنه ابني وإنه يتيم. فقال لها
عمر: هوِّني عليك، ثم قل لها: أله عطاء في الديوان؟ فقالت: لا. فقال:
اكتبوه في الذرية. فقالت زوجته فاطمة: أتفعل هذا به وقد شج ابنك؟ فعل الله
به وفعل، المرة الأخرى يشج ابنك ثانية. فقال: ويحك! إنه يتيم وقد أفزعتموه.
هذه هي أهم السمات العامة التي اتصف بها حكم الخليفة الأموي عمر بن عبد
العزيز -رحمه الله- الرفق والعدل، ونشر الشريعة الإسلامية بين الرعية قولاً
وعملاً.