وقفت تستنشق نسمات الصباح من شرفة منزلها المطلة على حارة السبعيني ، حيث الحياة لها طعم مختلف في هذه الحارة الشعبية الضيقة التي تفوح منها رائحة التاريخ حتى لتكاد تشمها في كل نسمة هواء تتنسمها ، فها هي البيوت القديمة ذات المشربيات التي أخذت طابعا إسلامياً ، و ها هي أصوات الباعة المتجولين تتردد في مسامعها ، و ها هم مرتادي مقهى المعلم حنفي تتعالى أصواتهم في المكان مع أغنية لأم كلثوم تنطلق من مذياع المقهى لتصل إلى أسماعها فتدندن على أنغامها
" يا صباح الخير يللي معانا ، الكروان غنى و صحانا " .
اعتادت سحر على ممارسة تلك الطقوس الصباحية اليومية قبل أن تذهب لجامعتها حيث دراستها التي أوشكت على الانتهاء لكي تتخرج من الكلية بنفس التقدير " الممتاز" الذي عودت نفسها و عاهدتها عليه منذ أول يوم التحقت فيه بكلية الحقوق .
كان ذكاؤها الفطري و طباع ابنة البلد التي تجري في دمائها لتضفي لمحة جمال خاصة على وجهها البشوش ، بالإضافة إلى تفوقها الدراسي كلها مدعاة لاهتمام الدكتور محمود أستاذ القانون الدولي بها .
كان يوليها اهتماماً أكثر من الآخرين و كان على سطوته و قوة شخصيته مع زملائها رقيق الحس معها ، مرتبكاً متلجلجاً حين يشرع في التحدث إليها .
و لطالما راودته نفسه أن يبوح لها بحبه لكنه كان يتمالك نفسه في آخر لحظة و يقول لنفسه :
مستحيل يا محمود ، فارق السن بينك و بينها كبير.
لو كانت زوجتك على قيد الحياة لكان لك ابنة منها في مثل عمر سحر .
أما سحر .. فقد كانت تشعر بحبه لها ، تراه في عينيه ، في رقته في التعامل معها دون غيرها، في شدة اهتمامه بها حتى أنه كان يدعوها إلى مكتبه ليسألها إن كانت تريده أن يشرح لها شيئا لم تفهمه كي يعيده عليها من جديد .
أغمضت سحر عينيها و هي تملأ صدرها بعبير حارتها المتسلل إلى منخريها عبر هواء شرفة منزلها .
تذكرت سامح جارها و حبيبها ليلة سفره و كم حاولت أن تقنعه ألا يسافر و أن يبذل كل ما في وسعه لينقذ مل يمكن إنقاذه .
ولطالما ناشدته أن يبدأ حياته هنا في بلده . كادت أن تقبل يده لتثنيه عن السفر ، لكنه ركب رأسه و ركب البحر و سافر . لقد بدأت تشعر بالخوف و الوحدة و الفراغ بعيدا عنه رغم محاولتها الانشغال بدراستها .
فكم جمعتهما هذه اللقاءات الصباحية و هما يتبادلان النظرات و الحديث الهامس من نوافذ منزليهما المتقابلة ، و طالما جمعتهما أماكن أخرى.
راحت تحدق ناظريها في شباك منزل سامح لعله يخرج فجأة مطلاً برأسه فيرسل لها تحية الصباح أو قبلة الهواء التي اعتادت عليها، لكنها كانت في كل مرة تصطدم بالفراغ فترجع أدراجها لتلقي بنظرة أخرى على المارة في الشارع الضيق علها تجده بينهم .إلا أن بصرها كان يرتد إليها خاسئاً حسيراً .
استمرت سحر في شرودها و الأحلام تأخذها تارة لتتخيل أنها قد أصبحت محامية كبيرة تتقاضى أعلى الأجور لتنقذ أسرتها الفقيرة المكونة من سبعة أخوة و أم مسكينة تكدح ليل نهار عليهم و على زوج أقعده المرض فلازم الفراش منذ أكثر من عامين ، و تارة أخرى و قد تزوجها سامح الذي عاهدها و عاهدته على الحب و الإخلاص مهما كانت الظروف .
كانت تسبح في بحر من الخيال و الصمت لم يقطعه إلا صوت ساعي البريد الذي أقبل من بعيد و في يده حقيبة منتفخة بالعديد من الرسائل ينادي على أصحابها لاستلامها بصوته الجهوري
.. سعد ابراهيم المواردي
كرر الاسم بصوت مرتفع و هو يقف أمام منزل سامح القديم متطلعاً بنظره إلى الأعلى ، إلى أن أطلت أخته برأسها من شرفتها .
.. نعم نعم ، هنا بيت سعد المواردي
.. لكم رسالة
.. انتظر ، سأنزل حالا لاستلامها
نزلت هناء مسرعة و استلمت الرسالة و لم تستطع الانتظار حتى تصعد لشقتها لتقرأ على أبيها الأمي ما جاء في الرسالة ، فلقد كان غياب سامح طويلاً و مخيفاً مما اضطرها أن تشق مظروف الرسالة بسرعة
و عيناها تتجولان بين سطور الرسالة بسرعة ثم ما لبثت أن أطلقت صرخة عالية اهتزت لها الحارة كلها :
.. يا حبيبي يا خويا
كانت سحر تراقب الحدث من بعيد فلما رأت تصرف أخته فهمت أن هناك أمراً خطيراً قد حدث لسامح ، هرولت مسرعة إلى بيت هناء لتجد الحزن و الصراخ قد دب في أرجائه ، فلقد مات سامح في حادث أليم في البلد الذي كان يعمل فيه .
شهقت سحر شهقة عالية و وضعت يداً على فمها محاولة أن تمسك صرختها كي لا يفتضح أمرها و الأخرى على بطنها و قد بدأ شيء ما يتحرك في أحشائها ، ثم قفزت درجات السلم نحو الشارع مسرعة و هي تجري كالمجنونة لا تدري إلى أين تمضي .
" يا صباح الخير يللي معانا ، الكروان غنى و صحانا " .
اعتادت سحر على ممارسة تلك الطقوس الصباحية اليومية قبل أن تذهب لجامعتها حيث دراستها التي أوشكت على الانتهاء لكي تتخرج من الكلية بنفس التقدير " الممتاز" الذي عودت نفسها و عاهدتها عليه منذ أول يوم التحقت فيه بكلية الحقوق .
كان ذكاؤها الفطري و طباع ابنة البلد التي تجري في دمائها لتضفي لمحة جمال خاصة على وجهها البشوش ، بالإضافة إلى تفوقها الدراسي كلها مدعاة لاهتمام الدكتور محمود أستاذ القانون الدولي بها .
كان يوليها اهتماماً أكثر من الآخرين و كان على سطوته و قوة شخصيته مع زملائها رقيق الحس معها ، مرتبكاً متلجلجاً حين يشرع في التحدث إليها .
و لطالما راودته نفسه أن يبوح لها بحبه لكنه كان يتمالك نفسه في آخر لحظة و يقول لنفسه :
مستحيل يا محمود ، فارق السن بينك و بينها كبير.
لو كانت زوجتك على قيد الحياة لكان لك ابنة منها في مثل عمر سحر .
أما سحر .. فقد كانت تشعر بحبه لها ، تراه في عينيه ، في رقته في التعامل معها دون غيرها، في شدة اهتمامه بها حتى أنه كان يدعوها إلى مكتبه ليسألها إن كانت تريده أن يشرح لها شيئا لم تفهمه كي يعيده عليها من جديد .
أغمضت سحر عينيها و هي تملأ صدرها بعبير حارتها المتسلل إلى منخريها عبر هواء شرفة منزلها .
تذكرت سامح جارها و حبيبها ليلة سفره و كم حاولت أن تقنعه ألا يسافر و أن يبذل كل ما في وسعه لينقذ مل يمكن إنقاذه .
ولطالما ناشدته أن يبدأ حياته هنا في بلده . كادت أن تقبل يده لتثنيه عن السفر ، لكنه ركب رأسه و ركب البحر و سافر . لقد بدأت تشعر بالخوف و الوحدة و الفراغ بعيدا عنه رغم محاولتها الانشغال بدراستها .
فكم جمعتهما هذه اللقاءات الصباحية و هما يتبادلان النظرات و الحديث الهامس من نوافذ منزليهما المتقابلة ، و طالما جمعتهما أماكن أخرى.
راحت تحدق ناظريها في شباك منزل سامح لعله يخرج فجأة مطلاً برأسه فيرسل لها تحية الصباح أو قبلة الهواء التي اعتادت عليها، لكنها كانت في كل مرة تصطدم بالفراغ فترجع أدراجها لتلقي بنظرة أخرى على المارة في الشارع الضيق علها تجده بينهم .إلا أن بصرها كان يرتد إليها خاسئاً حسيراً .
استمرت سحر في شرودها و الأحلام تأخذها تارة لتتخيل أنها قد أصبحت محامية كبيرة تتقاضى أعلى الأجور لتنقذ أسرتها الفقيرة المكونة من سبعة أخوة و أم مسكينة تكدح ليل نهار عليهم و على زوج أقعده المرض فلازم الفراش منذ أكثر من عامين ، و تارة أخرى و قد تزوجها سامح الذي عاهدها و عاهدته على الحب و الإخلاص مهما كانت الظروف .
كانت تسبح في بحر من الخيال و الصمت لم يقطعه إلا صوت ساعي البريد الذي أقبل من بعيد و في يده حقيبة منتفخة بالعديد من الرسائل ينادي على أصحابها لاستلامها بصوته الجهوري
.. سعد ابراهيم المواردي
كرر الاسم بصوت مرتفع و هو يقف أمام منزل سامح القديم متطلعاً بنظره إلى الأعلى ، إلى أن أطلت أخته برأسها من شرفتها .
.. نعم نعم ، هنا بيت سعد المواردي
.. لكم رسالة
.. انتظر ، سأنزل حالا لاستلامها
نزلت هناء مسرعة و استلمت الرسالة و لم تستطع الانتظار حتى تصعد لشقتها لتقرأ على أبيها الأمي ما جاء في الرسالة ، فلقد كان غياب سامح طويلاً و مخيفاً مما اضطرها أن تشق مظروف الرسالة بسرعة
و عيناها تتجولان بين سطور الرسالة بسرعة ثم ما لبثت أن أطلقت صرخة عالية اهتزت لها الحارة كلها :
.. يا حبيبي يا خويا
كانت سحر تراقب الحدث من بعيد فلما رأت تصرف أخته فهمت أن هناك أمراً خطيراً قد حدث لسامح ، هرولت مسرعة إلى بيت هناء لتجد الحزن و الصراخ قد دب في أرجائه ، فلقد مات سامح في حادث أليم في البلد الذي كان يعمل فيه .
شهقت سحر شهقة عالية و وضعت يداً على فمها محاولة أن تمسك صرختها كي لا يفتضح أمرها و الأخرى على بطنها و قد بدأ شيء ما يتحرك في أحشائها ، ثم قفزت درجات السلم نحو الشارع مسرعة و هي تجري كالمجنونة لا تدري إلى أين تمضي .