1- كائنات مقهى الفرح
جسدٌ يضطربُ، تكتبهُ أو يكتبكَ، وتمحوهُ أو يمحوك!فهل تبدأ تأويله، أم يبدأ تأويلك؟
جسدٌ مؤقتٌ تنتمي إليه، ولا تنتمي.. يشبهُ نصاً ما، وخطابه بلا معنى.. شافاً وكتيماً ينفتحُ، وينغلقُ!
وأيَّ مقامٍ تمتلكُ العبارةُ؟ وأيَّ موقفٍ يمتلكُ الوقتُ؟
جسدٌ هو أم فضاءٌ؟
يفتتحُ برهةً لكلامٍ نمتِ احتمالاته، ويتغيرُ، فيؤجلُ فيه النثرُ الشعرَ، وتدوّن أجزاءهِ لغةٌ ما.. يختلطُ الساكنُ فيها بالمتحرك.. فكيف يؤثثُ بديلهُ، نقيضه، هويته؟
هذه هي برهتهُ المضادةُ:
يتداخلُ فيه البياضُ والسوادُ.. تتآكلُ أبجديةٌ من رُقٌمٍ وقناطرَ وأقواسٍ.. وبين كائناتِ مقهى الفرحِ يعلنُ النثرُ سلطته!
جسدٌ ماديٌ أوشبهُ ماديٍ يدخلُ في لعبة الحديثِ والحداثة..يتكيفُ مع تحولاتهِ مختلفةً وغير مختلفةٍ... وأيةُ احتمالاتٍ تتوقعها منه لغةٌ مرئيةٌ أو غيرُ مرئيةٍ؟
في مقامِ الرؤيةِ يضيقُ النثرُ بالشعرِ! وعلى رصيفِ مقهى الفرح يضيق الشعرُ بالنثر!
خذ قهوتك إذاً، وأسلمْ عينيكَ لأبعادٍ كثيرة.. أشعةٌ تتهشمٌ بين السراي والسور والحديدِ والنخيلِ.. سروٌ وصنوبرٌ ودفلى بالأبيضِ والأسودِ.. جمهراتٌ وشاخصاتٌ وحافلاتٌ بالأسود والأبيضِ.. وجوهٌ وعيونٌ، مقدماتٌ ومؤخراتٌ، تتقنعُ بالطيفِ.. نكراتٌ بالأسود والأبيض يكتمل فيها النثر!
تأمل وحشية هذا الغسق، بربريةَ هذا الوقتِ..
عين على الوجهِ، عينٌ على القفا، والعالمُ الصغيرُ يتسعُ معناهُ، فيضيقُ.. يتآوى فيهِ آدميونَ وآدمياتٌ، مهملونَ ومهملاتٌ حالمونَ وحالماتٌ، صابرونَ وصابراتٌ.. وينتظر فيه ما لا يُنتظر آباءُ وأمهاتٌ، بنونَ وبناتٌ.. إلخ. ومن زوجين وحيدين أو كثيرين يكتملُ المذكرُ بالمؤنثُ والمؤنثُ بالمذكرِ والشعرُ بالنثرِ، يؤنثُ نصٌّ أعضاءَهُ، ويذكرها، ويؤسسُ جسدٌ للجسد المضاد.. وفي برهةٍ مضادةٍ يتناسلُ هواءٌ معدنيٌّ بأدمغةٍ معدنية، وليتكاثرْ أنسيٌّ وجنٌّ وحيوانٌ وطيرٌ وبذرةٌ..
عينٌ على قطعةِ النردِ، وعينٌ تحكُّ المكانَ بلذةٍ بريئةٍ!
يخرجُ المكانُ من المكانِ.. يدخلُ الكلامُ في الكلامِ.. يتغيرُّ الشكلُ من داخلٍ، ومن خارجٍ، وتفسدُ الجهاتُ.. فهل يتحول جسدٌ أم تنقرضُ لغةٌ، والوقتُ هو الوقتُ؟
عينٌ على الخارجِ: عجوزٌ يستندُ إلى عكازِة الضرورةِ.. ولدٌ يتأمل ساعةَ الميدانِ، ويرددُ: (اللهُ يخليك! خلني أمسح حذاءك).. برجٌ أسمنتيٌّ، برجانِ، ثلاثةٌ، أبراجٌ تحتلُّ فضاءَ البلدةِ.. مرايا بناء (بلازا) تتشحُ بأطمارٍ.. تتسخُ نجمتا مطعم "طليطلة" وفي جنينة " الدبابير " شخص يبسط كتباً عتيقة وجديدةً، والفتى بدفتر وقلمٍ وممحاةٍ يعلكُ حلماً لذيذاً... ومن شجرةِ الرصيفِ تطلعُ جنيةٌ، وأنتَ تتأملُ الوقتَ!
( عاشق النبيِ يصلّي عليهِ..)
أهيَ جنيتكَ الأولى أيها البهلول؟
يخرجُ الأنسُ من الجنِ، كما تخرجُ الجنُّ من الأنسِ، ويخرجُ الحيُّ من الميتِ.. يخرجُ الشعرُ من النثرِ أو النثرُ من الشعر، كما يخرجُ اللاشيءُ من الشيءِ!
العينُ على الخارجِ أو في الداخلِ، فخذ قهوتكَ إذاً..قطعةُ النرد ترتمي على أكثر من وجهٍ.. ورقُ اللعبِ يمشطُ الأكفَّ، يوزعُ الأصابعَ.. مجذوبٌ يقبلُ جبينَ زبونٍ، ويهتفُ: أعطني خمسَ ليراتٍ! ويرتفعُ أذانُ المغربِ، يشفُّ عن معنى ما، فلمَ لا تنتجُ قوةُ الروحِ جسداً مختلفاً؟ وهل تعكسُ شهوةُ الجسدِ روحاً مختلفةً؟
عتبةٌ وعتباتٌ، ممرٌ وممراتٌ، شاخصاتٌ وأشخاصٌ.. وهذا المكانُ كلهُ للروحِ وللجسد!
وفي برهةٍ غامضة تطلعُ جنيتكَ الأولى من شجرةِ الرصيف:
عينانِ كوكبانِ، جديلةُ سنابلَ على ثديينِ، عنقُ ماءٍ، سرة مسكٍ، فخذانِ من طيب.. إلخ ويعبقُ المكانُ برائحةِ الغيابِ!
أهيّ جنيتكَ الأولى حقاً؟
ومنذ ثلاثةِ عقودٍ أو أكثر انتعلت خفاً سحرياً، غبتما في حلك شارع (المتنبي)، وهمتما في خلوة (الدبلان)، وافترقتما على طريق (الشام) بعد أن اختفلتما قرب (القلعة).. فهل تكلمتما على الشعر وحده؟ وهل كانت حلمتْ بالثروةِ، والوقتُ ليسَ وقتكَ!
العينُ في الداخلِ، أو على الخارجِ.. يقايضُ بهلولٌ الشعرَ بالنثر.. يبايعُ سلطة النردِ في برهةٍ مضادة.. حداثةٌ متوحشةٌ تهجمُ على الداخلِ أو على الخارجِ، وفي مرآةِ الشارعِ تتثاءبُ جنيةٌ أولى تفوحُ من فمها رائحةُ الثومِ، والشهوةُ غامضةٌ وواضحةٌ!
جسدٌ تكتبهُ ويكتبكَ.. تمحوه ويمحوكَ.. يشبهُ نصاً ما يؤجلُ فيهِ الأصلُ النهاية!
خذ قهوتك إذاً قبلَ أذانِ المغربِ أو بعدهُ! ومنذُ بضعةِ أعوامٍ اعتادتْ زوجك عبارةً ترددها: إذاً سألَ أحدٌ عني فأنا في مقهى الفرحِ؟
هذه كائنات الغسقِ عتيقةٌ وجديدةٌ، قديمةٌ وحديثةٌ!
وفي المكان رائحة اللقاحِ بقهوةٍ وشاي وتبغ وتنباكٍ.. وفي الفضاء رائحةُ عسلٍ أيضاً.. الوارثونَ والوارثات، على أرصفةٍ وشوارعَ، وأذانُ المغربِ يرتفعُ جميلاً وجليلاً، بعيداً وقريباً.. يتوقفُ نردٌ، يهدأ بيدقٌ، يجتمعُ ورقٌ.. وتتجهُ خطا قلقةٌ إلى جامعِ في منعطفٍ.. يطمئنُّ الماءُ لسيرتهِ، ويكررُ الكلامُ حركاتهِ.. الجسدُ هو الجسدُ، والوقتُ في الثروةِ، والثروةُ في الوقت!
عينٌ في الداخل، أو على الخارج.. عينا مجذوب على فنجانِ قهوتكَ.. خذ قهوتك إذاً، وأنت تدخنُ، وحدث، وأشكرْ...
خذ العالمَ، خذ الحياةَ بالشعرِ وبالنثر، الأنقاضُ القديمةُ تؤرخُ لأنقاضٍ حديثةٍ.. جسدٌ يضطربُ، وينحني غسقٌ على كائناتٍ تنحني فيه دائماً!
كفُّ طفلٍ تقبضُ على يد أمهِ.. بطنُ الأم في لباسِ الحملِ، والأبُ يشمُّ تويجَ رأس ابنهِ التوءم فرحاً، والابنُ الآخرُ يمدُّ لسانه لزبونٍ، والبنتُ الصغيرةُ تنفجرُ ضحكتها كوردةٍ مرئيةٍ، أما جنيتك الأولى فيشفُّ جسدها عن قميصٍ، والوقتُ ليس وقتكَ!
*
العالمُ كلهُ لكَ.. فهل صليتَ على النبيِ؟
على وجهكَ نورٌ، والأرضُ تتسعُ لتضيقَ، تتحولُ شرفةً أو رصيفاً أو كرسياً، تتآوى أمام كرة تلفارز على عشاءٍ شبهِ علني، يؤاكل فيه الشعر النثر، وينحني الوقتُ للمتعةِ!
وفي غيابٍ يشبه الحضور، أو حضورٍ يشبه الغيابَ، وفي وضوحٍ يشبه الغموض، أو غموضٍ يشبه الوضوحَ تكتملُ سيادةُ النصِ.. وتستعينُ على الوضوحِ بالغموضِ! بين الغموضِ والوضوحِ تستعينُ بالنثرِ على الشعرِ.. تسمي بسلطةِ جسدٍ مرئي أو غير مرئيٍ، وبسلطةٍ جسدِ مرئيةٍ أو غير مرئيةٍ!
خذ قهوتك إذاً.. لا ثروةَ في هذا النصِ، ولا ثورةَ فيه.. فأيةُ احتمالاتٍ تنتظرُ من كتابةٍ تشبهُ الكتابةَ، والوقتُ هو وقتُ الآخرِ، وكلُّ شيء ساكن!
ليسَ في الأعضاءِ شهوةٌ بعدُ، ليسَ في الأشياء قوةٌ أيضاً.. والنثرُ في الشعر، والشعرُ في النثرِ!
الجنيةُ لم تطلعْ من شجرةٍ رصيفٍ أو مرآةِ شارعٍ.. لم تثمر شجرةٌ من شرقٍ أو غربٍ.. لم تخضر شجرةٌ في المكانِ.. لم تتفتحْ زهرةٌ..
تكلم وحدك على المقدر والمقدور، وأسلم عينيك لهذه التطورات...
بين الحلم والجنون هذه البرهة من يقين! ولكل غسق جمهراته، ولكل وقت نكراته، أما الجسد فمؤقت كهذا النص، تنتمي إليه، ولا تنتمي.. وكل شيء يتعطل!
يرتفع أذان المغرب في أكثر من فضاء..
الرصيف شطّ، والشارع بحر، والعينان مجذافان.. لم يغير النهر مجراه، والأنقاض تتجاور في المكان، والأعضاء المهشمة لم تلتئم بعد.. فلم لا يتحد الشعر بالنثر والنثر بالشعر؟ وكيف لا يختلط المذكر بالمؤنث والمؤنث بالمذكر؟ وأية عناصر تنتج جسداً مختلفاً؟ وأي خطاب ينمو في هذا النص، والوقت هو وقت الآخر، الوقت ليس وقتي!
إذا سأل أحدٌ عني فأنا في مقهى الفرحِ، أجمعُ موادَ ذاكرةٍ من جمهورية حجرٍ أسود وأبيضَ وخلايا صلصالٍ وأقواسِ قمحٍ وقناطر ضوءٍ ومنحنيات نحل وأفراسِ شهبٍ وعصافير ماءٍ وأعشابِ رعدٍ وثلجٍ ومطرٍ.. أجمعُ مواد جسدٍ من خشب وطينٍ وحجرٍ.. إلخ، أجمعُ موادَ الشعرِ في النثرِ، وأنا أتأملُ، وأتألمُ..
هكذا تسوي يدانِ من طبيعةٍ وفطرةِ خميرةً مختلفةً وغيرَ مختلفةٍ، ويفتتحُ الهواءُ كله المكان كله.. ومن كل زوجينِ ينمو ورثةٌ.. تتسعُ أرضٌ... تمتد سماءٌ..
عينٌ على الداخلِ وعلى الخارجِ، والجسدُ تبدأ تأويله، أو يبدأ تأويلك.. فخذ قهوتكَ على رصيفِ مقهى الفرحِ وفكر -إذاً أردتَ- بقوةَ الروحِ، والعالمُ ليس لكَ وحدكِ.. العالمُ ليسَ لهم وحدهم!
جسدٌ يضطربُ، تكتبهُ أو يكتبكَ، وتمحوهُ أو يمحوك!فهل تبدأ تأويله، أم يبدأ تأويلك؟
جسدٌ مؤقتٌ تنتمي إليه، ولا تنتمي.. يشبهُ نصاً ما، وخطابه بلا معنى.. شافاً وكتيماً ينفتحُ، وينغلقُ!
وأيَّ مقامٍ تمتلكُ العبارةُ؟ وأيَّ موقفٍ يمتلكُ الوقتُ؟
جسدٌ هو أم فضاءٌ؟
يفتتحُ برهةً لكلامٍ نمتِ احتمالاته، ويتغيرُ، فيؤجلُ فيه النثرُ الشعرَ، وتدوّن أجزاءهِ لغةٌ ما.. يختلطُ الساكنُ فيها بالمتحرك.. فكيف يؤثثُ بديلهُ، نقيضه، هويته؟
هذه هي برهتهُ المضادةُ:
يتداخلُ فيه البياضُ والسوادُ.. تتآكلُ أبجديةٌ من رُقٌمٍ وقناطرَ وأقواسٍ.. وبين كائناتِ مقهى الفرحِ يعلنُ النثرُ سلطته!
جسدٌ ماديٌ أوشبهُ ماديٍ يدخلُ في لعبة الحديثِ والحداثة..يتكيفُ مع تحولاتهِ مختلفةً وغير مختلفةٍ... وأيةُ احتمالاتٍ تتوقعها منه لغةٌ مرئيةٌ أو غيرُ مرئيةٍ؟
في مقامِ الرؤيةِ يضيقُ النثرُ بالشعرِ! وعلى رصيفِ مقهى الفرح يضيق الشعرُ بالنثر!
خذ قهوتك إذاً، وأسلمْ عينيكَ لأبعادٍ كثيرة.. أشعةٌ تتهشمٌ بين السراي والسور والحديدِ والنخيلِ.. سروٌ وصنوبرٌ ودفلى بالأبيضِ والأسودِ.. جمهراتٌ وشاخصاتٌ وحافلاتٌ بالأسود والأبيضِ.. وجوهٌ وعيونٌ، مقدماتٌ ومؤخراتٌ، تتقنعُ بالطيفِ.. نكراتٌ بالأسود والأبيض يكتمل فيها النثر!
تأمل وحشية هذا الغسق، بربريةَ هذا الوقتِ..
عين على الوجهِ، عينٌ على القفا، والعالمُ الصغيرُ يتسعُ معناهُ، فيضيقُ.. يتآوى فيهِ آدميونَ وآدمياتٌ، مهملونَ ومهملاتٌ حالمونَ وحالماتٌ، صابرونَ وصابراتٌ.. وينتظر فيه ما لا يُنتظر آباءُ وأمهاتٌ، بنونَ وبناتٌ.. إلخ. ومن زوجين وحيدين أو كثيرين يكتملُ المذكرُ بالمؤنثُ والمؤنثُ بالمذكرِ والشعرُ بالنثرِ، يؤنثُ نصٌّ أعضاءَهُ، ويذكرها، ويؤسسُ جسدٌ للجسد المضاد.. وفي برهةٍ مضادةٍ يتناسلُ هواءٌ معدنيٌّ بأدمغةٍ معدنية، وليتكاثرْ أنسيٌّ وجنٌّ وحيوانٌ وطيرٌ وبذرةٌ..
عينٌ على قطعةِ النردِ، وعينٌ تحكُّ المكانَ بلذةٍ بريئةٍ!
يخرجُ المكانُ من المكانِ.. يدخلُ الكلامُ في الكلامِ.. يتغيرُّ الشكلُ من داخلٍ، ومن خارجٍ، وتفسدُ الجهاتُ.. فهل يتحول جسدٌ أم تنقرضُ لغةٌ، والوقتُ هو الوقتُ؟
عينٌ على الخارجِ: عجوزٌ يستندُ إلى عكازِة الضرورةِ.. ولدٌ يتأمل ساعةَ الميدانِ، ويرددُ: (اللهُ يخليك! خلني أمسح حذاءك).. برجٌ أسمنتيٌّ، برجانِ، ثلاثةٌ، أبراجٌ تحتلُّ فضاءَ البلدةِ.. مرايا بناء (بلازا) تتشحُ بأطمارٍ.. تتسخُ نجمتا مطعم "طليطلة" وفي جنينة " الدبابير " شخص يبسط كتباً عتيقة وجديدةً، والفتى بدفتر وقلمٍ وممحاةٍ يعلكُ حلماً لذيذاً... ومن شجرةِ الرصيفِ تطلعُ جنيةٌ، وأنتَ تتأملُ الوقتَ!
( عاشق النبيِ يصلّي عليهِ..)
أهيَ جنيتكَ الأولى أيها البهلول؟
يخرجُ الأنسُ من الجنِ، كما تخرجُ الجنُّ من الأنسِ، ويخرجُ الحيُّ من الميتِ.. يخرجُ الشعرُ من النثرِ أو النثرُ من الشعر، كما يخرجُ اللاشيءُ من الشيءِ!
العينُ على الخارجِ أو في الداخلِ، فخذ قهوتكَ إذاً..قطعةُ النرد ترتمي على أكثر من وجهٍ.. ورقُ اللعبِ يمشطُ الأكفَّ، يوزعُ الأصابعَ.. مجذوبٌ يقبلُ جبينَ زبونٍ، ويهتفُ: أعطني خمسَ ليراتٍ! ويرتفعُ أذانُ المغربِ، يشفُّ عن معنى ما، فلمَ لا تنتجُ قوةُ الروحِ جسداً مختلفاً؟ وهل تعكسُ شهوةُ الجسدِ روحاً مختلفةً؟
عتبةٌ وعتباتٌ، ممرٌ وممراتٌ، شاخصاتٌ وأشخاصٌ.. وهذا المكانُ كلهُ للروحِ وللجسد!
وفي برهةٍ غامضة تطلعُ جنيتكَ الأولى من شجرةِ الرصيف:
عينانِ كوكبانِ، جديلةُ سنابلَ على ثديينِ، عنقُ ماءٍ، سرة مسكٍ، فخذانِ من طيب.. إلخ ويعبقُ المكانُ برائحةِ الغيابِ!
أهيّ جنيتكَ الأولى حقاً؟
ومنذ ثلاثةِ عقودٍ أو أكثر انتعلت خفاً سحرياً، غبتما في حلك شارع (المتنبي)، وهمتما في خلوة (الدبلان)، وافترقتما على طريق (الشام) بعد أن اختفلتما قرب (القلعة).. فهل تكلمتما على الشعر وحده؟ وهل كانت حلمتْ بالثروةِ، والوقتُ ليسَ وقتكَ!
العينُ في الداخلِ، أو على الخارجِ.. يقايضُ بهلولٌ الشعرَ بالنثر.. يبايعُ سلطة النردِ في برهةٍ مضادة.. حداثةٌ متوحشةٌ تهجمُ على الداخلِ أو على الخارجِ، وفي مرآةِ الشارعِ تتثاءبُ جنيةٌ أولى تفوحُ من فمها رائحةُ الثومِ، والشهوةُ غامضةٌ وواضحةٌ!
جسدٌ تكتبهُ ويكتبكَ.. تمحوه ويمحوكَ.. يشبهُ نصاً ما يؤجلُ فيهِ الأصلُ النهاية!
خذ قهوتك إذاً قبلَ أذانِ المغربِ أو بعدهُ! ومنذُ بضعةِ أعوامٍ اعتادتْ زوجك عبارةً ترددها: إذاً سألَ أحدٌ عني فأنا في مقهى الفرحِ؟
هذه كائنات الغسقِ عتيقةٌ وجديدةٌ، قديمةٌ وحديثةٌ!
وفي المكان رائحة اللقاحِ بقهوةٍ وشاي وتبغ وتنباكٍ.. وفي الفضاء رائحةُ عسلٍ أيضاً.. الوارثونَ والوارثات، على أرصفةٍ وشوارعَ، وأذانُ المغربِ يرتفعُ جميلاً وجليلاً، بعيداً وقريباً.. يتوقفُ نردٌ، يهدأ بيدقٌ، يجتمعُ ورقٌ.. وتتجهُ خطا قلقةٌ إلى جامعِ في منعطفٍ.. يطمئنُّ الماءُ لسيرتهِ، ويكررُ الكلامُ حركاتهِ.. الجسدُ هو الجسدُ، والوقتُ في الثروةِ، والثروةُ في الوقت!
عينٌ في الداخل، أو على الخارج.. عينا مجذوب على فنجانِ قهوتكَ.. خذ قهوتك إذاً، وأنت تدخنُ، وحدث، وأشكرْ...
خذ العالمَ، خذ الحياةَ بالشعرِ وبالنثر، الأنقاضُ القديمةُ تؤرخُ لأنقاضٍ حديثةٍ.. جسدٌ يضطربُ، وينحني غسقٌ على كائناتٍ تنحني فيه دائماً!
كفُّ طفلٍ تقبضُ على يد أمهِ.. بطنُ الأم في لباسِ الحملِ، والأبُ يشمُّ تويجَ رأس ابنهِ التوءم فرحاً، والابنُ الآخرُ يمدُّ لسانه لزبونٍ، والبنتُ الصغيرةُ تنفجرُ ضحكتها كوردةٍ مرئيةٍ، أما جنيتك الأولى فيشفُّ جسدها عن قميصٍ، والوقتُ ليس وقتكَ!
*
العالمُ كلهُ لكَ.. فهل صليتَ على النبيِ؟
على وجهكَ نورٌ، والأرضُ تتسعُ لتضيقَ، تتحولُ شرفةً أو رصيفاً أو كرسياً، تتآوى أمام كرة تلفارز على عشاءٍ شبهِ علني، يؤاكل فيه الشعر النثر، وينحني الوقتُ للمتعةِ!
وفي غيابٍ يشبه الحضور، أو حضورٍ يشبه الغيابَ، وفي وضوحٍ يشبه الغموض، أو غموضٍ يشبه الوضوحَ تكتملُ سيادةُ النصِ.. وتستعينُ على الوضوحِ بالغموضِ! بين الغموضِ والوضوحِ تستعينُ بالنثرِ على الشعرِ.. تسمي بسلطةِ جسدٍ مرئي أو غير مرئيٍ، وبسلطةٍ جسدِ مرئيةٍ أو غير مرئيةٍ!
خذ قهوتك إذاً.. لا ثروةَ في هذا النصِ، ولا ثورةَ فيه.. فأيةُ احتمالاتٍ تنتظرُ من كتابةٍ تشبهُ الكتابةَ، والوقتُ هو وقتُ الآخرِ، وكلُّ شيء ساكن!
ليسَ في الأعضاءِ شهوةٌ بعدُ، ليسَ في الأشياء قوةٌ أيضاً.. والنثرُ في الشعر، والشعرُ في النثرِ!
الجنيةُ لم تطلعْ من شجرةٍ رصيفٍ أو مرآةِ شارعٍ.. لم تثمر شجرةٌ من شرقٍ أو غربٍ.. لم تخضر شجرةٌ في المكانِ.. لم تتفتحْ زهرةٌ..
تكلم وحدك على المقدر والمقدور، وأسلم عينيك لهذه التطورات...
بين الحلم والجنون هذه البرهة من يقين! ولكل غسق جمهراته، ولكل وقت نكراته، أما الجسد فمؤقت كهذا النص، تنتمي إليه، ولا تنتمي.. وكل شيء يتعطل!
يرتفع أذان المغرب في أكثر من فضاء..
الرصيف شطّ، والشارع بحر، والعينان مجذافان.. لم يغير النهر مجراه، والأنقاض تتجاور في المكان، والأعضاء المهشمة لم تلتئم بعد.. فلم لا يتحد الشعر بالنثر والنثر بالشعر؟ وكيف لا يختلط المذكر بالمؤنث والمؤنث بالمذكر؟ وأية عناصر تنتج جسداً مختلفاً؟ وأي خطاب ينمو في هذا النص، والوقت هو وقت الآخر، الوقت ليس وقتي!
إذا سأل أحدٌ عني فأنا في مقهى الفرحِ، أجمعُ موادَ ذاكرةٍ من جمهورية حجرٍ أسود وأبيضَ وخلايا صلصالٍ وأقواسِ قمحٍ وقناطر ضوءٍ ومنحنيات نحل وأفراسِ شهبٍ وعصافير ماءٍ وأعشابِ رعدٍ وثلجٍ ومطرٍ.. أجمعُ مواد جسدٍ من خشب وطينٍ وحجرٍ.. إلخ، أجمعُ موادَ الشعرِ في النثرِ، وأنا أتأملُ، وأتألمُ..
هكذا تسوي يدانِ من طبيعةٍ وفطرةِ خميرةً مختلفةً وغيرَ مختلفةٍ، ويفتتحُ الهواءُ كله المكان كله.. ومن كل زوجينِ ينمو ورثةٌ.. تتسعُ أرضٌ... تمتد سماءٌ..
عينٌ على الداخلِ وعلى الخارجِ، والجسدُ تبدأ تأويله، أو يبدأ تأويلك.. فخذ قهوتكَ على رصيفِ مقهى الفرحِ وفكر -إذاً أردتَ- بقوةَ الروحِ، والعالمُ ليس لكَ وحدكِ.. العالمُ ليسَ لهم وحدهم!