3- البهلول والعالم
... وبعد بضعةِ عقودٍ ينبغي أن أنتظر على رصيفِ مقهى الفرحِ ذبيحةً من قهوةٍ فحسب!
ينبغي أن أنتمي إلى معدنٍ نادرٍ ونبيلٍ وجميلٍ يروِّجُ نكراتِ السوق. وأستطيعُ أن أثرثر مع عصافيري الصغيرةِ عن إخفاقٍ شخصيٍّ.. ينبغي أن أحتفل بنثرِ العالمِ!
وأستطيعُ أن أتكلّم على مطبخ شعريّ حديثٍ، طهاةُ عروضهِ أوزانهم منكسرةٌ ومتكسرةٌ ومتداخلةٌ..وبعد بضعةِ عقودٍ ينبغي أن أتلكم على ثورةٍ ما كانتْ في مخيلةِ سلطةٍ ما، ولم تكنْ في مخيلتي..
وفي برهةٍ أخيرةٍ ومتأخرةٍ تبلى ذاكرةٌ من بيانٍ مبينٍ.. ويقتسمُ ورثةٌ من أنسٍ وجنٍ رغيفي!
يتهشمُ الجسدُ الوحيدُ والكثيرُ.. وتهبطُ فحولُ الظلِّ الحارةُ على الأحياء والأشياءِ.. وبين ثرثرةٍ داخليةٍ وحوارِ لاعبِ شطرنحٍ مع مربعاتِ بياضٍ وسوادٍ يلتبسُ كلامٌ!
وعلى رصيف مقهى الفرح بهلولٌ وحيدٌ تخطفُ عينيهِ فراشاتُ دخانٍ وغزلانُ رمادٍ.. فماذا يفعلُ بحداثةِ هذا المكانِ كلها؟ وماذا يفعلُ بهذا الجنون كلَّه؟
فلأمتدح انحطاط الجسد! ولأتكيف مع نصٍ منفردٍ ومجتمعٍ!
لا فعلَ، ولا حركةً، ولا إيقاعَ.. بين الحلمِ والرؤيا تسقطُ فكرةٌ.. بين يقينٍ وظنٍ تتلاشى كلمةٌ.. بين صمتٍ وصوتٍ تنتهي شبهُ كتابةٍ.. بين شهوةٍ ومتعةٍ تتآوى قطعانُ ذكورٍ وإناثٍ.. وبين حياةٍ وشبه حياةٍ ينهزمُ الجسدُ كله!
... وفي برهةٍ أخيرةٍ ومتأخرةٍ ألاحظُ أمكنةً حديثةً ومعادنَ هشةً ورديئةً ووجوهاً خبيثةً، وأختنقُ برائحةِ الشعرِ والنثرِ.
وأتوقعُ زلزالاً ما، وأحسُّ أن شيئاً سيسقطُ في جهةٍ ما من العالم!
هكذا أفترضُ أنني أشكّل فقهَ جسدٍ آخرَ، وأزعمُ أنني أطوّرُ نصاً غير مشتركٍ مع الآخرِ... أمحو أسمائي، بعضها أوكلها.. أدخلُ في تجربةٍ، وأخرجُ منها.. أفترضُ أنني أكتملُ أكثر مما ينبغي، وأتفكك أكثر مما ينبغي، وأتقنّع بخطابٍ يلغي اللغة واللغة المضادة والبديلة.. لا خصوبة فيهِ ولا كثافة ولا شفافية!
ألطخُ بياضاً نما فيهِ الشبيهُ والضدُّ. ويتراكمُ ورقٌ، يتناسلُ، يضاعفُ البياضَ، وللبياضِ أحوالهُ ومواقفُه!
تتداخل أعضاءُ، تتخارجُ أجزاءُ، تختلط موادُ وعناصرُ، ويدونُ جمهورُ المجازِ نصاً اعتباطياً.. فأيةُ أبجديةٍ أنتمي إليها؟
غائبٌ أنا.. وأزعمُ حضوراً في العالمينَ... أنقسمُ، وأدعي حضور الجسدِ.. أثرثرُ، وأعلنُ: هذه لغتي!
أحلمُ بمتّحدٍ، وأستعيرُ أمكنةً بدلاً من أرضي، وأستعينُ بلسانِ الآخرينَ على لغتي، وبحياةِ الغيرِ على حياتي.. فأيُّ معنى يعينه فضائي؟
تلك شجرةٌ مرئيةٌ وغيرُ مرئيةٍ، لا شرقيةٌ ولا غربيةٌ، أراها، ولا أراها، تكادُ تضيءُ الأحياءَ والأشياءَ، يتآكلُ تحتها السالفونَ، وينحني حفدةٌ، وتهرُّ أغصاناً وأوراقاً وبراعمَ وثمراً.. وبالنثرِ يحشو أعرابٌ حديثونَ أقمطةً وأدمغةً وأكفاناً، وعلى رصيفِ مقهى الفرح يبشرُ بهلولٌ بالفرح!
آهِ، يا أبتِ: هل العالمُ جميلٌ ورديءٌ إلى هذا الحد؟
أعنّي إذاً على أرانبِ مؤسسةٍ حديثةٍ وفئرانها!
أعني على خبث الباعةِ وأقنعةِ الحريةِ ومعلّباتِ الحداثةِ ومجاعة التقدم... أَعِنْ شبه مجتمعٍ وشبه شعبٍ وشبه الأشباهِ وشبه الأصفار على الحزن مرةً وعلى الفرح مرتين!
يلهثُ أعرابيٌّ، ويتساءل منتشياً بحداثةِ نفطٍ وعظام موتى: من أين طريقُ الشام، يا ولدُ؟ ويتساءل ضدّي: من أين هذه الثروة كلها؟ ويتساءلُ شبيهي: هل الثروةُ هي الثورةُ؟
وأتساءلُ عن جنية صحبتني منذ طفولتي، وخيول اسمنتٍ تحاصرُ آدميينَ من اسمنت يتنفسّون هواءً اسمنتياً، ويتزاوجون بين نبات اسمنتي وماء اسمنتي، وتلك قطعان ذكور وإناثٍ تتساءلُ عن أخبارِ الساعةِ.. فعمَّ يتساءلونَ؟ وأيُّ نبأٍ عظيمٍ عن السلامِ والتسليمِ والعربِ والمسلمين؟
.... ومنذ أكثر من ثلاثة عقودٍ وأنا أرتّب أجزاء الجسدِ!
ومنذ أكثر من خمسةِ عقودٍ وأنا أشقى، وأردّدُ مقطعاً من أغنية شائعةٍ (نور جمالك آيةٌ.. أيةٌ من الله.. آمنتُ بالله) .
ومنذ أكثر من ثلاثة عقودٍ أرتّب أجزاء قصيدةٍ امتلكتني، وأقاتل أشباحاً من بينها الدهرُ، وأتغير، وأسلمُ وجهي لهذه التطورات!
هل هذا وجهي حقاً! ومتى رهنتُ قميصي؟ وأين اختفت جنيتي؟ ومن أكلني؟ وهل هذه الحداثة كلها بلدتي؟
يحتشدُ الجمهورُ والمكانِ بالنثر وبالشعرِ، ولا مادةَ في هذا الكلام، ولا رؤيا في تلك العبارة.. لا وقت لحكمةٍ أو غوايةٍ.. وللثروةِ المفاجئةِ ماضهيا القريبُ أو البعيدُ.. ولا أصدقاء في هذه الممراتِ السعيدة المنغلقة والمنفتحةِ.. لا أصدقاء لتلك الأضرحة!
وأي نصٍ تنتجهُ مذبحة شعرية، وغزالاتُ الكسوفِ تلطخُ أرصفة منها رصيفُ مقهى الفرح، وأنا أنتظرُ القرن الحادي والعشرين متأخراً قليلاً أو كثيراً.. تنتظره معي قصيدةٌ لم أكتبها بعد!
ماذا أفعل بهذا النثر كله إذاً؟
أختتمٌ به غسقاً أخيراً من رمادِ القرن العشرين، وأنا أتساءلُ: هل ينبغي أن أواجه هذا الفرح كله بقليلٍ من الحزنِ؟
ليكن ما يكونُ! أستعينُ بالشبيه وبالضدّ، وأفرحُ، فالعالمُ يحب الفرحانَ.. أمتدحُ أيَّ نشاطْ.. أصغي لأية ذاكرةٍ، والأسلافُ ينقرضُ بعضهم بذوراً وعناصر ونسجاً، وبعضهم الآخرُ يبوِّبُ تاريخ ممالكه وصحاراه.. يعده، يرتبهُ، يخلخلهُ، يهتكهُ، ليمسخَ فيما بعدُ.. ويتشردُ في عالم اعتباطي أو اتفاقيٍ أو احتماليٍ.. يختلف.. يتماثلُ.. يتعددُ.. يتنوعُ، ولا يتكاملُ..وفي برهة أخيرةٍ ومتأخرةٍ يتناسلُ الجميعُ في غيابِ المذكر والمؤنث! يتشكل جسدٌ من خارج،لا هيئة له، ولا شكل.. لا جنس، لا نوع، ولا فصيلة... تنفصلُ أجزاء مؤنثةٌ عن أجزاء مذكرةٍ.. وتُفرجُ عن ذاكرةٍ على هيئة هذه المقهى الرثةِ!
وفي برهة أخيرةٍ ومتأخرةٍ يؤجلُ الكلامُ رموزهُ، ويتقنعُ الكائنُ بحركةٍ تنمو من خارجهِ، والنص الكثيفُ، الكتيمُ، شبهُ المغلقِ، يربي خطوطاً وفواصل وشقوقاً وخروقاً، تتدفق حيواناتُهُ بالسوادِ، تفاجئهُ عيونٌ، يفاجىء بعضها بعضاً، والخطا تتجاذبُ وتتنابذُ، تتصلُ وتنفصلُ.. تقلصُ الكونَ وتقصيهِ أكثر مما ينبغي!
فهل تكفي بضعة عقودٍ لتأمل وجهٍ جميلٍ أو لتربيةِ جسدٍ أو لكتابة قصيدةٍ أتوقعُ منها الآن أن تقولَ الحقيقةَ!
في هذه البرهة الأخيرةِ والمتأخرةِ أدونُ عالماً تتجاورُ فيهِ كرسيُّ خيزران وطاولةُ نرد وشطرنجٌ ونرجيلةٌ وورقُ لعبٍ وقهوةٌ وشايٌ.. يتجاورُ فيه بهاليلُ ومجاذيبُ ودراويشُ.. وأتأمل الثروة، أو أكتشفُ كذبة سوداء وبيضاءَ.. أمتدحُ معدناً نادراً ونبيلاً وثميناً وجميلاً امتلكه أسلافي وأهلي من قبل!
وأهجو المنفعة واللذة والضرورة.. وأعلن ساعة الرتقِ والفتق والوصلِ والفصل.... ومنذ بضعة عقودٍ أدركُ أن هذه الأرض هي أرضي أولاً وأن هذه السماء هي سمائي أولاً!
ومنذُ بضعةِ عقودٍ أحاولُ فكرةً مختلفةً أوكلاماً مختلفاً أو كتابةً مختلفةً، وأنا أشقى، وأعلمُ أن هذا الوقت ليس وقتي
أدخلْ في التجربة، وأخرجْ منها، وانقطعْ، واتصلْ، وانقسمْ، واجتمعْ، فأيةُ علاقةٍ بينك وبين العالمِ؟
وأية ثورةٍ تنتظرُ على رصيفِ مقهى الفرحِ، والثروةُ هي الثورةُ، ولا ثورةَ في هذا النص، ولا ثروة فيه
واين تحلمُ بلقاء جنيتك، والعالمُ لا يؤثثهُ فاشلونَ وخائبونَ ومتعبونَ ومرضى وعرافون وسحرةٌ وكهنةٌ والحياةُ الدنيا للخبيثين، والخبيثات، كما للطيبين والطيبات...
أنتظر مصادفةً تمر بك فيها جنيتك الأولى، كما مر بك اعرابيٌ حديثٌ وجميلٌ، متأخرٌ وأخيرٌ، وسألك: من أين طريقُ الشام؟
*
تلكَ السيدةُ الطالعةُ بالندى المؤنث كله ترّن في خطواتها أجراسُ متعةٍ مرئيةٍ، وتهطلُ من أساورها حمائم مفضضةٌ، تنزفُ أجنحتها مسكاً وتوابلَ. وفي خفين من حركةٍ توشوشُ العيون، والأهدابُ تقطرُ بحبرِ رغبةٍ خفيةٍ !
تلك السيدة الطالعةُ في نهايةِ الغسق تمتلكُ ما لا يمتلكُ، وما لم يمتلك من قبلُ، تظهر بوجوهٍ متشابهةٍ ومختلفة، تراها ولا تراها، تأتي ولا تأتي، والقرن العشرون قد ينتهي صامتاً ومشوشاً وغامضاً ومخيفاً أيضاً، فمن ينتهي معه؟
وفي برهة أخيرة ومتأخرةٍ كيف تواجه العالم؟ أتتحول أكثر غيبة وخفاءً؟ ولم تصنفُ كائناتك النادرة والنبيلة القديمة والجديدة؟ وهل تغير لغتك أصواتاً ومقاطع وجذوراً؟
ولماذا تغير وجهك معلوماً ومجهولاً؟.
ومن يتعدد في الجهاتِ، ويتنوعُ في الوقتِ، والكلامُ من داخلٍ تفسدهُ كتابةٌ من خارجٍ
بين الصوت والصمت يتلاشى كلامٌ.. بين كلامٍ ونصٍ تفسدُ كتابةٌ، وبين كتابة وشبه كتابةٍ يشيعُ نثرُ الحياةِ.. بين برهةٍ وبرهةٍ أخرى ينهزمُ معنى؟
من أين تبتدىءُ قصيدةٌ بديلةٌ إذاً؟ وكيف أربي جسداً حديثاً؟ وماذا أفعلُ بهذه الأنقاضِ كلها؟
أصواتٌ وذبذباتٌ.. ضجيجٌ وصرخاتٌ.. سكناتٌ وحركاتٌ.. أسرارٌ ورموزٌ.. كلها تتآلف مع فسادِ جسدٍ، تتنضدُ بين شبهٍ واختلافٍ، والعالمُ ينطوي على تاريخهِ، ويتفجر أوينفجرُ أما أنتَ فتقوضُ تاريخكَ، وتتحولُ إلى موضوع
كيف يبتدىء فقهُ الجسد؟ ومتى يؤلفُ لغتهُ، ومنذ بضعةِ عقودٍ وأنت تتساءلُ: هل أنا من هذا العالم حقاً؟ وكيف أكونُ في العالم إذاً؟
... وبعد بضعةِ عقودٍ ينبغي أن أنتظر على رصيفِ مقهى الفرحِ ذبيحةً من قهوةٍ فحسب!
ينبغي أن أنتمي إلى معدنٍ نادرٍ ونبيلٍ وجميلٍ يروِّجُ نكراتِ السوق. وأستطيعُ أن أثرثر مع عصافيري الصغيرةِ عن إخفاقٍ شخصيٍّ.. ينبغي أن أحتفل بنثرِ العالمِ!
وأستطيعُ أن أتكلّم على مطبخ شعريّ حديثٍ، طهاةُ عروضهِ أوزانهم منكسرةٌ ومتكسرةٌ ومتداخلةٌ..وبعد بضعةِ عقودٍ ينبغي أن أتلكم على ثورةٍ ما كانتْ في مخيلةِ سلطةٍ ما، ولم تكنْ في مخيلتي..
وفي برهةٍ أخيرةٍ ومتأخرةٍ تبلى ذاكرةٌ من بيانٍ مبينٍ.. ويقتسمُ ورثةٌ من أنسٍ وجنٍ رغيفي!
يتهشمُ الجسدُ الوحيدُ والكثيرُ.. وتهبطُ فحولُ الظلِّ الحارةُ على الأحياء والأشياءِ.. وبين ثرثرةٍ داخليةٍ وحوارِ لاعبِ شطرنحٍ مع مربعاتِ بياضٍ وسوادٍ يلتبسُ كلامٌ!
وعلى رصيف مقهى الفرح بهلولٌ وحيدٌ تخطفُ عينيهِ فراشاتُ دخانٍ وغزلانُ رمادٍ.. فماذا يفعلُ بحداثةِ هذا المكانِ كلها؟ وماذا يفعلُ بهذا الجنون كلَّه؟
فلأمتدح انحطاط الجسد! ولأتكيف مع نصٍ منفردٍ ومجتمعٍ!
لا فعلَ، ولا حركةً، ولا إيقاعَ.. بين الحلمِ والرؤيا تسقطُ فكرةٌ.. بين يقينٍ وظنٍ تتلاشى كلمةٌ.. بين صمتٍ وصوتٍ تنتهي شبهُ كتابةٍ.. بين شهوةٍ ومتعةٍ تتآوى قطعانُ ذكورٍ وإناثٍ.. وبين حياةٍ وشبه حياةٍ ينهزمُ الجسدُ كله!
... وفي برهةٍ أخيرةٍ ومتأخرةٍ ألاحظُ أمكنةً حديثةً ومعادنَ هشةً ورديئةً ووجوهاً خبيثةً، وأختنقُ برائحةِ الشعرِ والنثرِ.
وأتوقعُ زلزالاً ما، وأحسُّ أن شيئاً سيسقطُ في جهةٍ ما من العالم!
هكذا أفترضُ أنني أشكّل فقهَ جسدٍ آخرَ، وأزعمُ أنني أطوّرُ نصاً غير مشتركٍ مع الآخرِ... أمحو أسمائي، بعضها أوكلها.. أدخلُ في تجربةٍ، وأخرجُ منها.. أفترضُ أنني أكتملُ أكثر مما ينبغي، وأتفكك أكثر مما ينبغي، وأتقنّع بخطابٍ يلغي اللغة واللغة المضادة والبديلة.. لا خصوبة فيهِ ولا كثافة ولا شفافية!
ألطخُ بياضاً نما فيهِ الشبيهُ والضدُّ. ويتراكمُ ورقٌ، يتناسلُ، يضاعفُ البياضَ، وللبياضِ أحوالهُ ومواقفُه!
تتداخل أعضاءُ، تتخارجُ أجزاءُ، تختلط موادُ وعناصرُ، ويدونُ جمهورُ المجازِ نصاً اعتباطياً.. فأيةُ أبجديةٍ أنتمي إليها؟
غائبٌ أنا.. وأزعمُ حضوراً في العالمينَ... أنقسمُ، وأدعي حضور الجسدِ.. أثرثرُ، وأعلنُ: هذه لغتي!
أحلمُ بمتّحدٍ، وأستعيرُ أمكنةً بدلاً من أرضي، وأستعينُ بلسانِ الآخرينَ على لغتي، وبحياةِ الغيرِ على حياتي.. فأيُّ معنى يعينه فضائي؟
تلك شجرةٌ مرئيةٌ وغيرُ مرئيةٍ، لا شرقيةٌ ولا غربيةٌ، أراها، ولا أراها، تكادُ تضيءُ الأحياءَ والأشياءَ، يتآكلُ تحتها السالفونَ، وينحني حفدةٌ، وتهرُّ أغصاناً وأوراقاً وبراعمَ وثمراً.. وبالنثرِ يحشو أعرابٌ حديثونَ أقمطةً وأدمغةً وأكفاناً، وعلى رصيفِ مقهى الفرح يبشرُ بهلولٌ بالفرح!
آهِ، يا أبتِ: هل العالمُ جميلٌ ورديءٌ إلى هذا الحد؟
أعنّي إذاً على أرانبِ مؤسسةٍ حديثةٍ وفئرانها!
أعني على خبث الباعةِ وأقنعةِ الحريةِ ومعلّباتِ الحداثةِ ومجاعة التقدم... أَعِنْ شبه مجتمعٍ وشبه شعبٍ وشبه الأشباهِ وشبه الأصفار على الحزن مرةً وعلى الفرح مرتين!
يلهثُ أعرابيٌّ، ويتساءل منتشياً بحداثةِ نفطٍ وعظام موتى: من أين طريقُ الشام، يا ولدُ؟ ويتساءل ضدّي: من أين هذه الثروة كلها؟ ويتساءلُ شبيهي: هل الثروةُ هي الثورةُ؟
وأتساءلُ عن جنية صحبتني منذ طفولتي، وخيول اسمنتٍ تحاصرُ آدميينَ من اسمنت يتنفسّون هواءً اسمنتياً، ويتزاوجون بين نبات اسمنتي وماء اسمنتي، وتلك قطعان ذكور وإناثٍ تتساءلُ عن أخبارِ الساعةِ.. فعمَّ يتساءلونَ؟ وأيُّ نبأٍ عظيمٍ عن السلامِ والتسليمِ والعربِ والمسلمين؟
.... ومنذ أكثر من ثلاثة عقودٍ وأنا أرتّب أجزاء الجسدِ!
ومنذ أكثر من خمسةِ عقودٍ وأنا أشقى، وأردّدُ مقطعاً من أغنية شائعةٍ (نور جمالك آيةٌ.. أيةٌ من الله.. آمنتُ بالله) .
ومنذ أكثر من ثلاثة عقودٍ أرتّب أجزاء قصيدةٍ امتلكتني، وأقاتل أشباحاً من بينها الدهرُ، وأتغير، وأسلمُ وجهي لهذه التطورات!
هل هذا وجهي حقاً! ومتى رهنتُ قميصي؟ وأين اختفت جنيتي؟ ومن أكلني؟ وهل هذه الحداثة كلها بلدتي؟
يحتشدُ الجمهورُ والمكانِ بالنثر وبالشعرِ، ولا مادةَ في هذا الكلام، ولا رؤيا في تلك العبارة.. لا وقت لحكمةٍ أو غوايةٍ.. وللثروةِ المفاجئةِ ماضهيا القريبُ أو البعيدُ.. ولا أصدقاء في هذه الممراتِ السعيدة المنغلقة والمنفتحةِ.. لا أصدقاء لتلك الأضرحة!
وأي نصٍ تنتجهُ مذبحة شعرية، وغزالاتُ الكسوفِ تلطخُ أرصفة منها رصيفُ مقهى الفرح، وأنا أنتظرُ القرن الحادي والعشرين متأخراً قليلاً أو كثيراً.. تنتظره معي قصيدةٌ لم أكتبها بعد!
ماذا أفعل بهذا النثر كله إذاً؟
أختتمٌ به غسقاً أخيراً من رمادِ القرن العشرين، وأنا أتساءلُ: هل ينبغي أن أواجه هذا الفرح كله بقليلٍ من الحزنِ؟
ليكن ما يكونُ! أستعينُ بالشبيه وبالضدّ، وأفرحُ، فالعالمُ يحب الفرحانَ.. أمتدحُ أيَّ نشاطْ.. أصغي لأية ذاكرةٍ، والأسلافُ ينقرضُ بعضهم بذوراً وعناصر ونسجاً، وبعضهم الآخرُ يبوِّبُ تاريخ ممالكه وصحاراه.. يعده، يرتبهُ، يخلخلهُ، يهتكهُ، ليمسخَ فيما بعدُ.. ويتشردُ في عالم اعتباطي أو اتفاقيٍ أو احتماليٍ.. يختلف.. يتماثلُ.. يتعددُ.. يتنوعُ، ولا يتكاملُ..وفي برهة أخيرةٍ ومتأخرةٍ يتناسلُ الجميعُ في غيابِ المذكر والمؤنث! يتشكل جسدٌ من خارج،لا هيئة له، ولا شكل.. لا جنس، لا نوع، ولا فصيلة... تنفصلُ أجزاء مؤنثةٌ عن أجزاء مذكرةٍ.. وتُفرجُ عن ذاكرةٍ على هيئة هذه المقهى الرثةِ!
وفي برهة أخيرةٍ ومتأخرةٍ يؤجلُ الكلامُ رموزهُ، ويتقنعُ الكائنُ بحركةٍ تنمو من خارجهِ، والنص الكثيفُ، الكتيمُ، شبهُ المغلقِ، يربي خطوطاً وفواصل وشقوقاً وخروقاً، تتدفق حيواناتُهُ بالسوادِ، تفاجئهُ عيونٌ، يفاجىء بعضها بعضاً، والخطا تتجاذبُ وتتنابذُ، تتصلُ وتنفصلُ.. تقلصُ الكونَ وتقصيهِ أكثر مما ينبغي!
فهل تكفي بضعة عقودٍ لتأمل وجهٍ جميلٍ أو لتربيةِ جسدٍ أو لكتابة قصيدةٍ أتوقعُ منها الآن أن تقولَ الحقيقةَ!
في هذه البرهة الأخيرةِ والمتأخرةِ أدونُ عالماً تتجاورُ فيهِ كرسيُّ خيزران وطاولةُ نرد وشطرنجٌ ونرجيلةٌ وورقُ لعبٍ وقهوةٌ وشايٌ.. يتجاورُ فيه بهاليلُ ومجاذيبُ ودراويشُ.. وأتأمل الثروة، أو أكتشفُ كذبة سوداء وبيضاءَ.. أمتدحُ معدناً نادراً ونبيلاً وثميناً وجميلاً امتلكه أسلافي وأهلي من قبل!
وأهجو المنفعة واللذة والضرورة.. وأعلن ساعة الرتقِ والفتق والوصلِ والفصل.... ومنذ بضعة عقودٍ أدركُ أن هذه الأرض هي أرضي أولاً وأن هذه السماء هي سمائي أولاً!
ومنذُ بضعةِ عقودٍ أحاولُ فكرةً مختلفةً أوكلاماً مختلفاً أو كتابةً مختلفةً، وأنا أشقى، وأعلمُ أن هذا الوقت ليس وقتي
أدخلْ في التجربة، وأخرجْ منها، وانقطعْ، واتصلْ، وانقسمْ، واجتمعْ، فأيةُ علاقةٍ بينك وبين العالمِ؟
وأية ثورةٍ تنتظرُ على رصيفِ مقهى الفرحِ، والثروةُ هي الثورةُ، ولا ثورةَ في هذا النص، ولا ثروة فيه
واين تحلمُ بلقاء جنيتك، والعالمُ لا يؤثثهُ فاشلونَ وخائبونَ ومتعبونَ ومرضى وعرافون وسحرةٌ وكهنةٌ والحياةُ الدنيا للخبيثين، والخبيثات، كما للطيبين والطيبات...
أنتظر مصادفةً تمر بك فيها جنيتك الأولى، كما مر بك اعرابيٌ حديثٌ وجميلٌ، متأخرٌ وأخيرٌ، وسألك: من أين طريقُ الشام؟
*
تلكَ السيدةُ الطالعةُ بالندى المؤنث كله ترّن في خطواتها أجراسُ متعةٍ مرئيةٍ، وتهطلُ من أساورها حمائم مفضضةٌ، تنزفُ أجنحتها مسكاً وتوابلَ. وفي خفين من حركةٍ توشوشُ العيون، والأهدابُ تقطرُ بحبرِ رغبةٍ خفيةٍ !
تلك السيدة الطالعةُ في نهايةِ الغسق تمتلكُ ما لا يمتلكُ، وما لم يمتلك من قبلُ، تظهر بوجوهٍ متشابهةٍ ومختلفة، تراها ولا تراها، تأتي ولا تأتي، والقرن العشرون قد ينتهي صامتاً ومشوشاً وغامضاً ومخيفاً أيضاً، فمن ينتهي معه؟
وفي برهة أخيرة ومتأخرةٍ كيف تواجه العالم؟ أتتحول أكثر غيبة وخفاءً؟ ولم تصنفُ كائناتك النادرة والنبيلة القديمة والجديدة؟ وهل تغير لغتك أصواتاً ومقاطع وجذوراً؟
ولماذا تغير وجهك معلوماً ومجهولاً؟.
ومن يتعدد في الجهاتِ، ويتنوعُ في الوقتِ، والكلامُ من داخلٍ تفسدهُ كتابةٌ من خارجٍ
بين الصوت والصمت يتلاشى كلامٌ.. بين كلامٍ ونصٍ تفسدُ كتابةٌ، وبين كتابة وشبه كتابةٍ يشيعُ نثرُ الحياةِ.. بين برهةٍ وبرهةٍ أخرى ينهزمُ معنى؟
من أين تبتدىءُ قصيدةٌ بديلةٌ إذاً؟ وكيف أربي جسداً حديثاً؟ وماذا أفعلُ بهذه الأنقاضِ كلها؟
أصواتٌ وذبذباتٌ.. ضجيجٌ وصرخاتٌ.. سكناتٌ وحركاتٌ.. أسرارٌ ورموزٌ.. كلها تتآلف مع فسادِ جسدٍ، تتنضدُ بين شبهٍ واختلافٍ، والعالمُ ينطوي على تاريخهِ، ويتفجر أوينفجرُ أما أنتَ فتقوضُ تاريخكَ، وتتحولُ إلى موضوع
كيف يبتدىء فقهُ الجسد؟ ومتى يؤلفُ لغتهُ، ومنذ بضعةِ عقودٍ وأنت تتساءلُ: هل أنا من هذا العالم حقاً؟ وكيف أكونُ في العالم إذاً؟