يعد
اللعب نشاطاً هاماً يمارسه الفرد ويقوم بدور رئيس في تكوين شخصيته من جهة
وتأكيد تراث الجماعة، من جهة أخرى. واللعب ظاهرة سلوكية تسود عالم الكائنات
الحية ـ ولا سيما الإنسان وتمتاز بها الفقريات العليا أيضاً.
ومن
الجدير بالذكر أن اللعب ـ بوصفه ظاهرة سلوكية ـ لم ينل ما يستحقه من
الدراسات الجادة والبحث المتعمق في الدراسات النفسية والسلوكية.
ولعل
السبب في قصور الدراسات عن تناول مثل هذا الموضوع يعود إلى وضوح الظاهرة
وعموميتها أو صعوبة الدراسة الجادة لهذه الظاهرة السلوكية، أو كل هذا معاً.
واللعب
في الطفولة وسيط تربوي هام يعمل على تكوين الطفل في هذه المرحلة الحاسمة
في النمو الإنساني. ولا ترجع أهمية اللعب إلى الفترة الطويلة التي يقضيها
الطفل في اللعب فحسب، بل أنه يسهم بدور هام في التكوين النفسي للطفل وتكمن
فيه أسس النشاط التي تسيطر على التلميذ في حياته المدرسية.
يبدأ
الطفل باشباع حاجاته عن طريق اللعب، حيث تتفتح أمام الطفل أبعاد العلاقات
الاجتماعية القائمة بين الناس ويدرك أن الاسهام في أي نشاط يتطلب من الشخص
معرفة حقوقه وواجباته، وهذا ما يعكسه في نشاط لعبه، ويتعلم الطفل عن طريق
اللعب الجمعي الضبط الذاتي، والتنظيم الذاتي تمشياً مع الجماعة، وتنسيقاً
لسلوكه مع الأدوار المتبادلة فيها.
واللعب مدخل أساسي لنمو الطفل
عقلياً ومعرفياً وليس لنموه اجتماعياً وانفعالياً فقط، ففي اللعب يبدأ
الطفل بمعرفة الأشياء وتصنيفها ويتعلم مفاهيمها ويعمم فيما بينها على أساس
لغوي، وهنا يؤدي نشاط اللعب دوراً كبيراً في النمو اللغوي للطفل وفي تكوين
مهارات الاتصال لديه.
واللعب لا يختص بالطفولة فقط فهو يلازم اشد الناس وقاراً ويكاد يكون موجوداً في كل نشاط أو فاعلية يؤديها الفرد.
يقول فولكييه:
(لا يزول اللعب بزوال الطفولة، فالراشد نفسه لا يمكن أن يقوم بفاعلية هائلة إلا إذا اشتغل وكأنه يلعب).
فاللعب
يمتاز بالحرية والمرونة بينما يتطلب العمل التفكير بالنتائج والانتباه
المتواصل. ويحتل ـ العمل مكانة هامة في نمو الطفل، لكن دوره يختلف في حياة
الطفل عنه في حياة الكبار.
إن العمل ينطوي على امكانات تربوية وتعليمية هائلة في عملية النمو.
فنشاط
العمل يشبع في الطفل حاجة أصلية إلى الممارسات الشديدة والفعالة ويكون
العمل جذاباً بقدر ما يبعث من مشاعر السرور لدى الطفل نتيجة لمساهمته
بالنشاط مع الكبار والأطفال الآخرين. فالأطفال الصغار يقومون بمهام عملية
منفردة توجههم إليها دوافع ضيقة تتسم بالتركز حول الذات. وهم يعملون بغية
الحصول على استحسان الوالدين والكبار. ومع تقدم المراحل العمرية تأخذ دوافع
العمل في التغير عند الأطفال. فطفل الثالثة من العمر يكون العمل لديه أكثر
اجتذاباً واستثارة، وإذ يقوم الطفل بأداء ما يطلب إليه بالاشتراك مع
الكبار يشعر بنفسه وكأنه شخص كبير.
النظريات المختلفة في تفسير اللعب
ـ نظرية الطاقة الزائدة :
ظهرت في أواخر القرن الماضي هذه النظرية ووضع أساسها (شيلر) الشاعر الألماني ثم الفيلسوف هربرت سبنسر وخلاصتها:
أن
اللعب مهمته التخلص من الطاقة الزائدة. فالحيوان، مثلاً، إذا توافرت لديه
طاقة تزيد عما يحتاجه للعمل فانه يصرف هذه الطاقة في اللعب. وإذا طبقنا ذلك
على الأطفال نرى أن الأطفال يحاطون بعناية اوليائهم ورعايتهم فيقدمون لهم
الغذاء ويعنون بنظافتهم وصحتهم دون أن يقوم الأطفال بعمل ما فتتولد لديهم
طاقة زائدة يصرفونها في اللعب. إن هذا معقول إلى حد ما لكنه لا يفسر حقائق
اللعب كلها فالقول به تسليم بأن اللعب مقتصر على الطفولة وهذا لا ينطبق على
الواقع إذ عند الكبير أيضاً ميل إلى اللعب، بل يمارسه في الواقع. فإذا كان
اللعب مرتبطاً بوجود فضل الطاقة، فكيف يمكن شرح كيفية لعب الحيوان الصغير
أو الطفل إلى درجة تنهك فيها قواه كما نشاهد ذلك غالباً في الحياة العادية.
لا
شك أننا، في هذا الموقف، نجد اتجاها يحرم اللعب من دوره النشط المؤثر في
عملية النمو، كما يحذف دور الظروف الاجتماعية والاقتصادية وامكانية تأثير
المحيط الإنساني في إثارة هذه الطاقة وتوظيفها وتوجيهها لصالح الإنسان.
نظرية الإعداد للحياة المستقبلية:
يرى
واضع هذه النظرية كارل غروس (karl groos) أن اللعب للكائن الحي هو عبارة
عن وظيفة بيولوجية هامة. فاللعب يمرن الأعضاء، وبذلك يستطيع الطفل أن يسيطر
سيطرة تامة عليها، ولن يستعملها استعمالاً حرا في المستقبل.
فاللعب،
إذاً إعداد للكائن الحي كي يعمل في المستقبل الأعمال الجادة المفيدة،
ومثالنا على ذلك تناطح الحملان في لعبها إنما هو تمرين على القيام بالتناطح
الجدي في المستقبل والدفاع عن النفس وتراكض الجراء وعض بعضها بعضاً كأنها
تتدرب على القتال. وصغار الطير تضرب بأجنحتها بما يشبه حركات الطيران وكذلك
القطط التي تطارد بعضها بعضاً في أثناء اللعب، فهي تقوم بحركات تشبه
الحركات التي تقوم بها في المستقبل بقصد الحصول على الطعام ومطاردة
الفريسة.
والطفلة في عامها الثالث تستعد بشكل لا شعوري لتقوم بدور
الأم حين تضع لعبتها وتهدهدها كي تنام. وهكذا فإن مصدر اللعب هو الغرائز،
أي الآليات البيولوجية ولقد أكد وجهة النظر البيولوجية هذه كثير من العلماء
مع إجراء تعديلات طفيفة عليها. ومما يثبت صحة هذه النظرية، من الأدلة، أن
اللعب يأخذ شكلاً خاصاً عند كل نوع من أنواع الحيوانات.
ولو كان
اللعب مجرد تخلص من الطاقة الزائدة لجاءت الحركات بصورة عشوائية عند
الحيوانات جميعها ولما اختلفت من كائن إلى آخر. وترى هذه النظرية أن
الإنسان يحتاج أكثر من غيره إلى اللعب لأن تركيبه الجسمي أكثر تعقيداً
واعماله في المستقبل أكثر اهمية واتساعاً. ومن هنا كانت فترة طفولته أطول
ليزداد لعبه وتتمرن اعضاؤه، كما ترى أن اللعب من خصائص الحيوان الراقي،
بينما الكائنات الحية غير الراقية كالحشرات والزواحف، مثلاً، لا تلعب ويعود
ذلك إلى أن الحيوانات الراقية تولد غير مكتملة النمو وغير قادرة على
مواجهة صعوبات الحياة بنفسها من دون مساعدة كبارها بينما الكائنات الحية
غير الراقية تولد بالغة مكتملة النمو تقريباً وتكون مستقلة عن كبارها وهذا
يغنيها عن اللعب. وهكذا نرى أن نظرية (جروس) هذه يصح تطبيقها على الانسان،
كما يصح تطبيقها على الحيوان، مع احتفاظنا بالفارق بين حياتي الإنسان
والحيوان. فحياة الإنسان غنية بعناصرها وتفاعلاتها وحاجاتها المختلفة إذا
ما قورنت بحياة الحيوان البسيطة والمحدودة.
ـ النظرية التخليصية :
صاحب هذه النظرية هو ستانلي هول وخلاصتها:
إن
اللعب هو تلخيص لضروب النشاطات المختلفة التي مر بها ال--- البشري عبر
القرون والأجيال، وليس اعداداً للتدرب على نشاط مقبل ومواجهة صعاب الحياة.
فالعاب
القفز والتسلق والصيد وجمع الأشياء المختلفة هي العاب فردية أو جماعية غير
منظمة ولعل هذا يشير إلى حياة الإنسان الأول عندما كان يصطاد الحيوانات
ويسخرها لمصلحته، فالطفل حينما يجمع حوله جماعات الرفاق ليلعب معهم، إنما
يمثل في عمله نشأة الجماعات الأولى في حياة الإنسان، كما أنه إذا قدمنا له
عدداً من المكعبات فانه يشرع في بناء منزل أو ما أشبه، وهذه تمثل مرحلة من
مراحل التقدم في الحياة إذن فالإنسان يلخص في لعبه أدوار المدنية التي مرت
عليه، كما يلخص الممثل على المسرح تماماً تاريخ أمة من الأمم في ساعات
قليلة. وقد واجهت هذه النظرية اعتراضات كثيرة منها:
أن هذه النظرية
بنيت على افتراض أن المهارات التي تعلمها جيل من الأجيال والخبرات التي حصل
عليها يمكن أن يرثها الجيل الذي يليه، غير أن هذه النظرية القائلة بتوريث
الصفات المكتسبة والتي يعد (لامارك) مؤسساً لها لم يعثر على ما يؤيدها في
دراسة الوراثة، كما يرفض معظم علماء الوراثة في الغرب الرأي القائل بإمكان
توريث الصفات المكتسبة وهذا كله أدى إلى إلغاء هذه النظرية إضافة إلى أن
الصغار ليسوا صوراً مصغرة عن الكبار فركوب الدراجات واستعمال الهواتف مثلاً
ليس تكراراً لتجارب قديمة، وإنما هو من معطيات الجيل الذي يستخدمها نفسه.
ـ النظرية التنفيسية :
وهي
نظرية مدرسة التحليل النفسي الفرويدية وتركز على العاب الأطفال بخاصة، إذ
ترى أن اللعب يساعد الطفل على التخفيف مما يعانيه من القلق الذي يحاول كل
إنسان التخلص منه بأية طريقة. واللعب إحدى هذه الطرق وتشبه هذه النظرية إلى
حد ما نظرية الطاقة الزائدة.
واللعب عند مدرسة التحليل النفسي
تعبير رمزي عن رغبات محبطة أو متاعب لا شعورية، وهو تعبير يساعد على خفض
مستوى التوتر والقلق عند الطفل.
فالطفل الذي يكره أباه كراهية لا
شعورية قد يختار دمية من الدمى التي يعدها الأب، فيفقأ عينيها أو يدفنها في
الأرض وهو بهذه الحالة يعبر عن مشاعره الدفينة بواسطة اللعب. وترى الولد
الذي يغار من أخته التي تقاسمه محبة والديه يضمر لها عداء يعبر عنه دون قصد
بالقسوة على دميته التي يتوهم فيها شخص أخته. لذا فالأم تستطيع أن تعرف
شيئاً عن حالة طفلها النفسية من الطريقة التي يعامل بها دميته. فهو يضرب
دميته أو يأمرها بعدم الكلام أو يقذفها من الباب وهذه كلها رموز تدل على
أشياء تسبب له القلق. وعن طريق اللعب يصحح الطفل الواقع ويطوعه لرغباته (إن
دميتي تنام متى تشاء) وبواسطته يخفف من أثر التجارب المؤلمة (عوقبت الدمية
إذا أجريت لها عملية اللوزتين) وبه يكتشف حوادث المستقبل ويتنبأ بها
(ستعاقبين يا دميتي لانك لم تسمعي كلمة ماما).
ورسوم الأطفال الحرة
هي عبارة عن نوع من اللعب وتؤدي وظيفة اللعب نفسها. فالطفل قد يرسم عقرباً
ويقول هذه (زوجة أبي) والطفل الذي يشعر بالوحدة قد يرسم أفراد العائلة كلهم
داخل المنزل باستثناء طفل متروك خارجه.
ولا شك أن الطفل يتغلب على
مخاوفه عن طريق اللعب، فالطفل الذي يخاف أطباء الأسنان يكثر من الألعاب
التي يمثل فيها دور طبيب الأسنان، إذ أن تكرار الموقف الذي يسبب الخوف من
شأنه أن يجعل الفرد يألفه. والمألوف لا يخيفنا لأننا نتصرف حياله التصرف
المناسب، ولدينا متسع من الوقت لهذا التصرف بخلاف غير المألوف. والأطفال
الذين يخافون من الأطباء يعطون لعبة تمثل المريض وسماعات ليفحصوا بها
وليمثلوا دور الطبيب بأنفسهم وبذلك يستطيعون التغلب على مخاوفهم من الأطباء
بواسطة العابهم.
ولنذكر على سبيل المثال: حالة تظهر كيف يكون اللعب
مسرحاً يمثل عليه الطفل متاعبه النفسية رمزياً: طفل في منتصف الثانية من
عمره كانت أمه تتركه وحده فترات طويلة، فكانت لعبته المحببة هي أن يمسك
ببكرة يوجد عليها خيط فيرمي بها تحت السرير حتى تختفي هناك، وهنا يصيح
منزعجاً ثم يجذبها فيفرح بعودتها مرحباً بظهورها، فالطفل في لعبته المذكورة
يمثل رمزياً المأساة والأحزان التي يعاني منها ويصور بسلوكه خبرة مؤلمة
يكابدها، هي مأساة اختفاء أمه وعودتها. وبذلك كان يخفف من القلق الذي
ينتابه.
وترجع نظرية مدرسة التحليل النفسي إلى عهد الفيلسوف
اليوناني المشهور ارسطو الذي كان يرى أن وظيفة التمثيليات المحزنة هي
مساعدة المشاهدين على تفريغ أحزانهم من خلال مشاهدة ما فيها من أحداث
ووقائع.
ومن الواضح أن النظرية المذكورة لا تكفي لتفسير اللعب فليس مقبولاً أن تكون وظيفة اللعب مقصورة على مجرد التنفيس.