2- حديث الأعرابي
لم تنضجِ الفكرةُ بعدُ!
النصُّ الذي تحاولهُ حتى الآنَ قناعٌ، والقصيدةُ التي تتوقعُ أن تكتبها جزءٌ من حلمٍ، والجمرةُ في يدٍ وفمٍ ودماغٍ.. أما العينُ التي ترى في الخارج فلا ترى من الداخلِ، وقد تأخر الحلمُ كثيراً، وعليكَ أن تحلمَ، فلا تحزنْ أو تفرحْ..
بعد خمسةِ عقودٍ وأكثر ليس لسلطةٍ ما معنى، (سلطةُ الحلم أو سلطةُ الفكرةِ..)، وبعد خمسة عقودٍ وأكثر لا تنفعك ثروةٌ تأخرتْ، وتتأخرُ قليلاً أو كثيراً..
ولا معنى لأيةِ علاقة حبٍ مع فتاةٍ مريضةٍ أو سيدةٍ محترمةٍ، وبعد أن تتآكل شبهُ جماعة تحتويك، لا حاجةَ لقرابةٍ قديمةٍ أو لصحبةٍ حديثةٍ وعابرةٍ عقدتها مصادفةً. وبعد لقاحٍ وخصابٍ وولادةٍ سترى السوقَ تأكلُ بنيكَ وبني بنيك، فلا تطرب لإنجابٍ أخير. وتلك الجنيةُ التي تتكلمُ طفولتكُ عليها لعبةٌ شعرية مملةٌ!
تأخرتِ الفكرةُ إذاً، والقصيدةُ التي تحاولها لا تأتيك، فتحالفْ مع نثر العالم!
وعلى رصيف مقهى الفرح تستطيعُ أن تدرّبَ عينيكَ على الرؤيةِ، وتستطيعُ أن تتحولَ إلى نكرة بين نكراتٍ في برهةٍ لا قوةَ فيها ولاولايةَ.. وبين رؤيا وحمى قد يفاجئك شخصٌ من الأعرابِ بنبأٍ ونبوءةٍ!
المقهى من داخلٍ ومن خارج كمثل بيتٍ، تنتمي إليه كائناتهُ ولا تنتمي.. العالمُ بعضهُ أوكلهُ تضطربُ فيه حيواناتهُ، يروّجُ وجوهاً كمثل نقودٍ مزّروةٍ يحشو بها رجالٌ محترمون، أعضاءهم الداخليةَ!
ألاحظ في المكانِ سلطةَ نصٍ شبه قديمةٍ وشبه حديثةٍ. ويضغطُ نثرٌ اعتياديٌ أدمغة السادة.. وتنتشر روائح كريهةٌ ونتنةٌ في فضاءِ روحٍ عامةٍ، تقولُ شخوصه ما يقالُ وما لا يقالُ..
هي سيرةُ محنةٍ ومجاعةٍ يترجلُ من داخلها عبادٌ صامتونَ وثرثارونَ وصابرونَ ومتعبونَ ونادمونَ، بكوفياتٍ وقبعاتٍ ومناديلَ مزركشةٍ، بين نخلاتِ زينةٍ وأعمدةِ كهرباء..
تبعثرُ ساعةُ الميدانِ الرئيسِ أسنانها وعقاربها وأهلّتها، فأعتقلُ ناقتي، وأتأملُ على كرسي الانتظار سماءً من قشٍ وتبنٍ ورمادٍ.. أعاينُ أثلاماً من تبغٍ وتنباكٍ ونردٍ وورق لعبٍ وشطرنجٍ وقهوةٍ وشايٍ.. فلم لا أعاني مع أبطالِ برهةٍ أخيرةٍ ومتأخرةٍ فتوحاتٍ تتجعدُ فيها أوراقُ كلامٍ تشحنه مطبعةٌ شبهُ حديثةٍ بعصافير ميتةٍ ورئاتِ أطفالٍ؟
ولمَ لا تدهشني رؤيا غامضةٌ، وأنا على كرسىّ الانتظارِ، يحدثني فيها شخصٌ من الأعرابِ عن غمةٍ لا تنكشفُ، وحياةٍ كمثلٍ الموتِ، ويتكلمُ على جمهراتِ عباد تعدمُ تحت الأرضِ!
تختلطُ أقنعةٌ بوجوهٍ، يدونُ نصٌ مقدسٌ نصاً مدنساً، وتتداخلُ نصوصٌ مرئيةٌ وغيرُ مرئيةٍ، يهربها لصوصٌ مبهمون!
يهتف بي شخصٌ من الأعرابِ: لا تقرأ، ولا تكتبْ! فما تكسبهُ من شعر يشبه النثر، أو من نثر يشبه الشعرَ، لا يساوي ثمنَ ابتسامةٍ أصطنعها في أذنِ مكتبِ عقاراتٍ أو أعلافٍ أو خضرٍ.. ويقول لي: هذا الوقتُ ليس وقتكَ!
لكلِّ كائنٍ قناعهُ، فاختر قناعاً، به تسعى على طرقٍ تزدحمُ بمخبولين ودراويشَ ومقامرينَ وعاطلينَ ومبتورينَ.. وضع رأسك بين رؤوس ملأٍ يتكيفُ مع أصفادهِ وسلاسلهِ وأقفاصهِ وبيارقهِ وأوسمتهِ.. ولكلٍ عضوٍ ما كسبَ! هل كانَ الأعرابيُّ شخصاً انتظرته من قبلُ، يخاطبني، ولا أراهُ، وأخاطبهُ فلا يراني!
وكيفَ تحوّلَ رصيفُ مقهى الفرحِ إلى رصيفٍ من نوع حديثٍ، وأنا أبتلعُ تظاهرةَ حزنٍ وفرحٍ على كرسىّ انتظارٍ.. وانتميت إلى عالم لستُ منهُ، ولا مكانَ لي فيه.. لم أكن فيهِ من قبلُ والآنَ!
أكتشفُ نصوصاً غير مرئيةٍ في برهةٍ جسديةٍ، إذ صعبت الولادةُ من تحتُ وفوقُ.. ويتفسحُ لحمُ مؤسسةٍ شبهِ حديثةٍ تعرضُ أدمغةَ فقراءَ وأجراء ومتسولينَ وقديسينَ ومماليك ومملوكينَ..
وبين فيءٍ وضوءٍٍ يرتفعُ أذانٌ، ويعلو صوتُ الباعة!
هو ذا كوكبٌ شبهُ أرضيٍّ مختلٍ للبيعِ، ولابد أن يختزلهُ مختبرٌ للرؤيا!
*
في مختبر للرؤيا سلع موتى وأحياء من كل فصيلة ونوع وجنس، وفيه صيارفة بوجوه كمثل الأصابع، وبأصابع كمثل أظافر معدن، وفيه كل شيء للبيع: عبارة حبّ... جناح زهرة.. خلية دماغ.. قوائم غزالة.. خميرة يد.. مدية فكرة.. شعاع عين.. إلخ! ويخيل إليّ أن ثلاجة الدينونة تفتتح فصلها الأخير بمباراة قصيرة تستشهد فيها جمهرات تشاركني بطولتي، وأشاركها استشهادها!
وبعد نشيد فرح مؤقت طارىء يستوي المرئي وغير المرئي، يستوي شهداء وقتلة، ويتآخى عارفون وجاهلون!
ليكن إذاً هذا النثر الاعتيادي فاتحة لجنون، يخوط نصوصاً تنطوي فسيفساء آثارها على بدو وحضر، تنظم عواصمهم قداساً إباحياً يلهو بتماثيله!
وفي مختبر الرؤيا مشروعُ إنسانٍ يبتلعُ في نصه شبهُ النثر شبه الشعر، وتجابه الألفُ الياء، والحياةُ التي كمثلِ الموتِ ترضى بموتٍ كمثلِ الحياةِ، وكل شيء للبيعِ، والعالمُ سوقٌ تنتجُ فيه الثورةُ الثروةَ.. السوقُ بيانٌ، والبيانُ كلامٌ!
أستطلعُ النثر على رصيف مقهى الفرح في وجوهِ المارةِ ودليلِ الأسرةِ وسيرةِ قبيلةٍ أهليةٍ.. وألاحظهُ في عيونِ الصباحِ وأطباق العشيةِ، في وجوهِ أكفٍ وأصابعَ وأظافرَ وأسنانِ شحنةِ أرزٍ فاسدةٍ.. وهكذا أحررُ ميراثه الجميلَ من تفاعليه بكثيرٍ من الغموضِ، وبقليلٍ من الوضوح يلطخُ عنواناتهِ بياضٌ يهبني قليلاً من الفوضى وكثيراً من العدم!
ولابد أن تؤرخ مدائحُ ومقاماتٌ وليلاتٌ ذهبيةٌ بطولة أفواهٍ رسميةٍ وشبه رسميةٍ وشهادةُ أعضاءَ معلومةٍ ومجهولةٍ!
أهذا هو العالم حقاً؟ وهل كنتُ مشروعَ إنسانٍ عطّلت سلالمهُ فكرةً تكتملُ بسلطةِ الجنونِ؟
لابدَّ من موتٍ آخر، ولابد من ولادةٍ أيضاً.. وعليَّ أن أشرب كأسي وحدي أو مع غيري.. ينبغي أن ألتحق بأرضٍ لم أورثْ فيها ينبوعاً أو بيتاً أو حقلاً.. ينبغي أن أستكشف تربةً لم تورثني قبراً.. وينبغي أن أتكلم على العشق والعاشقِ والمعشوقِ والشهادةِ والشاهدِ والمشهودِ، كي أنسى لذةَ بلاغةٍ تصحبها شهوةُ كتابةٍ.. وعلي أن أخلو بنصٍّ لا وحدةَ فيه ولا كثرةَ!
تفقسُ إشاراتٌ وعباراتٌ.. ترنُ أصواتٌ وأصداءُ، بعد أن دقت ساعةُ الميدانِ الكبرى.. تتجعّدُ أقوالٌ وضحكاتٌ وقهقهاتٌ تفوحُ رائحةُ رجالٍ وأشباهِ فحولٍ، أما عيونُ النسوةِ فتئنُّ خلف عربات السوقِ!
لا نعمة في هذه الخلوةِ على رصيفِ مقهى الفرحِ، فأية بركةٍ في حلمٍ لا قوةَ فيه ولا ولاية؟
أشهدُ جمهراتٍ من أرانبَ وفئران.. تتناذرُ سفاراتٌ ومبادىءٌ وراياتٌ.. يرتفعُ أذانُ المغرب بدراويشه وبهاليلهِ إلى سماءٍ سابعةٍ، ويأخذني صوت المؤذن، بينما يهتف بي شخصٌ من الأعراب: اُهجمْ على الحياة، يا فتى!
أدخلُ السوق إذاً وكل شيءٍ للبيع: جمجمةُ قديسٍ، رداءُ أمبراطورٍ، أسنانُ مومسٍ، لباسُ يرقةٍ، قبعةُ عصفورٍ، أعضاءُ ينبوعٍ، عذرةُ ثمرةٍ.. إلخ، تفتتح جوقاتٌ شبه علنيةٍ وشبه سريةٍ مزادَ رخوياتٍ تكشفُ عوراتها عن أميراتٍ صغيراتٍ تفتحت أحواضهن عن زهراتِ فضةٍ وياقوتٍ وذهبٍ.. وفي أقفاصِ السوقِ أقنعة كهنةٍ ووجوهُ حكامٍ وعيونُ ساسةٍ وأصابعُ شعرٍ ونثرٍ.. وعلى درجاتها مدائحُ ومعلقاتٌ شبهُ قديمةٍ وشبهُ حديثةٍ!
أتكيفُ مع مختبر للرؤيا، وأسلمُ عينيَّ للكون والفساد.. أصغي لحديثِ شخصٍ من الأعرابِ نبّهَ خلوتي، وأنا أعقل ناقتي على رصيف مقهى الفرح!
كل عضو فاسد، كل جزءٍ ينحطُّ.. الكوكبُ الآدميُّ يتآكلُ من داخلٍ،/ ومن خارجٍ.. تنحني سماءٌ، تنحني أرضٌ، وينحني فضاءٌ بينهما.. كل أنثى تدشن جبانةً لذكرٍ، وكلُّ ذكرٍ يتذوق لحم أنثاه ميتةً، وللسلطةِ شرائعُ تتعفنُ قطعانها!
غموضٌ جميلٌ يسقطُ فيه كلُّ شيء. وأقولُ: أيُّ نصٍ يؤاكلُ جنونهُ، وأقولُ، هذا موتُ اللغة.. ويضحك الأعرابيُّ من خلوتي في الحزن والفرح! ولكنْ! هل ينبغي أن أتفاءل قليلاً أو كثيراً، وبعد إشارة أو إشارتين أو ثلاث، وبعد بضعة عقود لابد أن تجيء جنيةٌ أولى، وتمسحَ على جبيني، ونتباوح، وترش قبضة ترابٍ على جسدينا، وتهتفُ: فلأكن أرضاً، ولتكن فلاحاً يحرثني! وأخضرُّ، وتخضرُّ، ويخضرُّ حائطٌ وسريرٌ وعتبةٌ وماءٌ، وإذ بذريّة ذكورٍ وإناثٍ تضاعفُ بلاداً فقيرةً وشحيحةً، نمت فيها بذورٌ وجذورٌ.. وتقول لي سترى بنيك وبني بنيك، وستشبع من عشرةِ الأرض والنساء، فأرتجفُ، وأتعرّقُ، وأدهش.. يغمرني ظلُّ نورٍ وظلٌّ من دخانٍ.. أنظرُ وأحدقُ، وأغمضُ عينيَّ.. أفتحهما فلا أرى أحداً!
أهو مختبرٌ للرؤيا أم مقامٌ في الجنون؟! أهي غيبةٌ أولى أم ظهورٌ آخرُ؟
ويسلمني رصيفُ مقهى الفرحِ إلى حياةٍ لا بطولةَ فيها ولا شهادةَ.. تحترقُ عباراتٌ وإشاراتٌ ورموزٌ.. فماذا يلدُ من تحت؟ ما الذي يلدُ من فوق؟
تتهشمُ وجوهٌ وأكفٌ وعيونٌ وأقدامٌ وأنابيبُ اختبارٍ.. تتراكضُ فئرانٌ وأرانبُ وحوجلاتٌ.. ملكوتٌ شبه آدميٍ يشهدُ على نهايتِه!
*
لكَ في الأرض والسماءِ حضورٌ،
وبكَ العصرُ ينتهي والأصولُ
كيف ألقاكَ، إذ حللتَ، وأصفو،
لمَ لا أهتدي، وأنتَ الدليلُ؟
لا أسميكَ، والوضوحُ غموضٌ،
أو أكنّيكَ، والتجلي حلولُ!
أنا لم أكتمل، ووجهكَ وجهي،
لغةٌ جُسِّدتْْ، ورؤيا بتولُ..
*
لم تنضجْ الفكرةُ بعدُ إذاً. ولم يكتمل نصٌّ بين دهشة وحيرةٍ وشكٍ وتساؤلٍ.. فأية عينٍ تدربها؟ وأيُّ دماغ تربيه؟ وكيف يدفنُ الأمواتُ موتاهم؟
يخيلُ إليَّ أن شخصاً من الأعراب بعباءةٍ من نورٍ ينبهُ خلوتي على رصيف مقهى الفرح، ويطالبني أن أهجم على الحياةِ بين جمهراتٍ تتفسخ تحت الأرضِ وفوقَ الأرض.!
وأتوقعُ أن أكتب قصيدةً أنا قارئها الوحيد الذي ينتجها بعد أن يهجر خلوته على رصيف مقهى الفرح!
وقد أستمرُّ في محاولةِ نصٍّ مجنونٍ!
لم تنضجِ الفكرةُ بعدُ!
النصُّ الذي تحاولهُ حتى الآنَ قناعٌ، والقصيدةُ التي تتوقعُ أن تكتبها جزءٌ من حلمٍ، والجمرةُ في يدٍ وفمٍ ودماغٍ.. أما العينُ التي ترى في الخارج فلا ترى من الداخلِ، وقد تأخر الحلمُ كثيراً، وعليكَ أن تحلمَ، فلا تحزنْ أو تفرحْ..
بعد خمسةِ عقودٍ وأكثر ليس لسلطةٍ ما معنى، (سلطةُ الحلم أو سلطةُ الفكرةِ..)، وبعد خمسة عقودٍ وأكثر لا تنفعك ثروةٌ تأخرتْ، وتتأخرُ قليلاً أو كثيراً..
ولا معنى لأيةِ علاقة حبٍ مع فتاةٍ مريضةٍ أو سيدةٍ محترمةٍ، وبعد أن تتآكل شبهُ جماعة تحتويك، لا حاجةَ لقرابةٍ قديمةٍ أو لصحبةٍ حديثةٍ وعابرةٍ عقدتها مصادفةً. وبعد لقاحٍ وخصابٍ وولادةٍ سترى السوقَ تأكلُ بنيكَ وبني بنيك، فلا تطرب لإنجابٍ أخير. وتلك الجنيةُ التي تتكلمُ طفولتكُ عليها لعبةٌ شعرية مملةٌ!
تأخرتِ الفكرةُ إذاً، والقصيدةُ التي تحاولها لا تأتيك، فتحالفْ مع نثر العالم!
وعلى رصيف مقهى الفرح تستطيعُ أن تدرّبَ عينيكَ على الرؤيةِ، وتستطيعُ أن تتحولَ إلى نكرة بين نكراتٍ في برهةٍ لا قوةَ فيها ولاولايةَ.. وبين رؤيا وحمى قد يفاجئك شخصٌ من الأعرابِ بنبأٍ ونبوءةٍ!
المقهى من داخلٍ ومن خارج كمثل بيتٍ، تنتمي إليه كائناتهُ ولا تنتمي.. العالمُ بعضهُ أوكلهُ تضطربُ فيه حيواناتهُ، يروّجُ وجوهاً كمثل نقودٍ مزّروةٍ يحشو بها رجالٌ محترمون، أعضاءهم الداخليةَ!
ألاحظ في المكانِ سلطةَ نصٍ شبه قديمةٍ وشبه حديثةٍ. ويضغطُ نثرٌ اعتياديٌ أدمغة السادة.. وتنتشر روائح كريهةٌ ونتنةٌ في فضاءِ روحٍ عامةٍ، تقولُ شخوصه ما يقالُ وما لا يقالُ..
هي سيرةُ محنةٍ ومجاعةٍ يترجلُ من داخلها عبادٌ صامتونَ وثرثارونَ وصابرونَ ومتعبونَ ونادمونَ، بكوفياتٍ وقبعاتٍ ومناديلَ مزركشةٍ، بين نخلاتِ زينةٍ وأعمدةِ كهرباء..
تبعثرُ ساعةُ الميدانِ الرئيسِ أسنانها وعقاربها وأهلّتها، فأعتقلُ ناقتي، وأتأملُ على كرسي الانتظار سماءً من قشٍ وتبنٍ ورمادٍ.. أعاينُ أثلاماً من تبغٍ وتنباكٍ ونردٍ وورق لعبٍ وشطرنجٍ وقهوةٍ وشايٍ.. فلم لا أعاني مع أبطالِ برهةٍ أخيرةٍ ومتأخرةٍ فتوحاتٍ تتجعدُ فيها أوراقُ كلامٍ تشحنه مطبعةٌ شبهُ حديثةٍ بعصافير ميتةٍ ورئاتِ أطفالٍ؟
ولمَ لا تدهشني رؤيا غامضةٌ، وأنا على كرسىّ الانتظارِ، يحدثني فيها شخصٌ من الأعرابِ عن غمةٍ لا تنكشفُ، وحياةٍ كمثلٍ الموتِ، ويتكلمُ على جمهراتِ عباد تعدمُ تحت الأرضِ!
تختلطُ أقنعةٌ بوجوهٍ، يدونُ نصٌ مقدسٌ نصاً مدنساً، وتتداخلُ نصوصٌ مرئيةٌ وغيرُ مرئيةٍ، يهربها لصوصٌ مبهمون!
يهتف بي شخصٌ من الأعرابِ: لا تقرأ، ولا تكتبْ! فما تكسبهُ من شعر يشبه النثر، أو من نثر يشبه الشعرَ، لا يساوي ثمنَ ابتسامةٍ أصطنعها في أذنِ مكتبِ عقاراتٍ أو أعلافٍ أو خضرٍ.. ويقول لي: هذا الوقتُ ليس وقتكَ!
لكلِّ كائنٍ قناعهُ، فاختر قناعاً، به تسعى على طرقٍ تزدحمُ بمخبولين ودراويشَ ومقامرينَ وعاطلينَ ومبتورينَ.. وضع رأسك بين رؤوس ملأٍ يتكيفُ مع أصفادهِ وسلاسلهِ وأقفاصهِ وبيارقهِ وأوسمتهِ.. ولكلٍ عضوٍ ما كسبَ! هل كانَ الأعرابيُّ شخصاً انتظرته من قبلُ، يخاطبني، ولا أراهُ، وأخاطبهُ فلا يراني!
وكيفَ تحوّلَ رصيفُ مقهى الفرحِ إلى رصيفٍ من نوع حديثٍ، وأنا أبتلعُ تظاهرةَ حزنٍ وفرحٍ على كرسىّ انتظارٍ.. وانتميت إلى عالم لستُ منهُ، ولا مكانَ لي فيه.. لم أكن فيهِ من قبلُ والآنَ!
أكتشفُ نصوصاً غير مرئيةٍ في برهةٍ جسديةٍ، إذ صعبت الولادةُ من تحتُ وفوقُ.. ويتفسحُ لحمُ مؤسسةٍ شبهِ حديثةٍ تعرضُ أدمغةَ فقراءَ وأجراء ومتسولينَ وقديسينَ ومماليك ومملوكينَ..
وبين فيءٍ وضوءٍٍ يرتفعُ أذانٌ، ويعلو صوتُ الباعة!
هو ذا كوكبٌ شبهُ أرضيٍّ مختلٍ للبيعِ، ولابد أن يختزلهُ مختبرٌ للرؤيا!
*
في مختبر للرؤيا سلع موتى وأحياء من كل فصيلة ونوع وجنس، وفيه صيارفة بوجوه كمثل الأصابع، وبأصابع كمثل أظافر معدن، وفيه كل شيء للبيع: عبارة حبّ... جناح زهرة.. خلية دماغ.. قوائم غزالة.. خميرة يد.. مدية فكرة.. شعاع عين.. إلخ! ويخيل إليّ أن ثلاجة الدينونة تفتتح فصلها الأخير بمباراة قصيرة تستشهد فيها جمهرات تشاركني بطولتي، وأشاركها استشهادها!
وبعد نشيد فرح مؤقت طارىء يستوي المرئي وغير المرئي، يستوي شهداء وقتلة، ويتآخى عارفون وجاهلون!
ليكن إذاً هذا النثر الاعتيادي فاتحة لجنون، يخوط نصوصاً تنطوي فسيفساء آثارها على بدو وحضر، تنظم عواصمهم قداساً إباحياً يلهو بتماثيله!
وفي مختبر الرؤيا مشروعُ إنسانٍ يبتلعُ في نصه شبهُ النثر شبه الشعر، وتجابه الألفُ الياء، والحياةُ التي كمثلِ الموتِ ترضى بموتٍ كمثلِ الحياةِ، وكل شيء للبيعِ، والعالمُ سوقٌ تنتجُ فيه الثورةُ الثروةَ.. السوقُ بيانٌ، والبيانُ كلامٌ!
أستطلعُ النثر على رصيف مقهى الفرح في وجوهِ المارةِ ودليلِ الأسرةِ وسيرةِ قبيلةٍ أهليةٍ.. وألاحظهُ في عيونِ الصباحِ وأطباق العشيةِ، في وجوهِ أكفٍ وأصابعَ وأظافرَ وأسنانِ شحنةِ أرزٍ فاسدةٍ.. وهكذا أحررُ ميراثه الجميلَ من تفاعليه بكثيرٍ من الغموضِ، وبقليلٍ من الوضوح يلطخُ عنواناتهِ بياضٌ يهبني قليلاً من الفوضى وكثيراً من العدم!
ولابد أن تؤرخ مدائحُ ومقاماتٌ وليلاتٌ ذهبيةٌ بطولة أفواهٍ رسميةٍ وشبه رسميةٍ وشهادةُ أعضاءَ معلومةٍ ومجهولةٍ!
أهذا هو العالم حقاً؟ وهل كنتُ مشروعَ إنسانٍ عطّلت سلالمهُ فكرةً تكتملُ بسلطةِ الجنونِ؟
لابدَّ من موتٍ آخر، ولابد من ولادةٍ أيضاً.. وعليَّ أن أشرب كأسي وحدي أو مع غيري.. ينبغي أن ألتحق بأرضٍ لم أورثْ فيها ينبوعاً أو بيتاً أو حقلاً.. ينبغي أن أستكشف تربةً لم تورثني قبراً.. وينبغي أن أتكلم على العشق والعاشقِ والمعشوقِ والشهادةِ والشاهدِ والمشهودِ، كي أنسى لذةَ بلاغةٍ تصحبها شهوةُ كتابةٍ.. وعلي أن أخلو بنصٍّ لا وحدةَ فيه ولا كثرةَ!
تفقسُ إشاراتٌ وعباراتٌ.. ترنُ أصواتٌ وأصداءُ، بعد أن دقت ساعةُ الميدانِ الكبرى.. تتجعّدُ أقوالٌ وضحكاتٌ وقهقهاتٌ تفوحُ رائحةُ رجالٍ وأشباهِ فحولٍ، أما عيونُ النسوةِ فتئنُّ خلف عربات السوقِ!
لا نعمة في هذه الخلوةِ على رصيفِ مقهى الفرحِ، فأية بركةٍ في حلمٍ لا قوةَ فيه ولا ولاية؟
أشهدُ جمهراتٍ من أرانبَ وفئران.. تتناذرُ سفاراتٌ ومبادىءٌ وراياتٌ.. يرتفعُ أذانُ المغرب بدراويشه وبهاليلهِ إلى سماءٍ سابعةٍ، ويأخذني صوت المؤذن، بينما يهتف بي شخصٌ من الأعراب: اُهجمْ على الحياة، يا فتى!
أدخلُ السوق إذاً وكل شيءٍ للبيع: جمجمةُ قديسٍ، رداءُ أمبراطورٍ، أسنانُ مومسٍ، لباسُ يرقةٍ، قبعةُ عصفورٍ، أعضاءُ ينبوعٍ، عذرةُ ثمرةٍ.. إلخ، تفتتح جوقاتٌ شبه علنيةٍ وشبه سريةٍ مزادَ رخوياتٍ تكشفُ عوراتها عن أميراتٍ صغيراتٍ تفتحت أحواضهن عن زهراتِ فضةٍ وياقوتٍ وذهبٍ.. وفي أقفاصِ السوقِ أقنعة كهنةٍ ووجوهُ حكامٍ وعيونُ ساسةٍ وأصابعُ شعرٍ ونثرٍ.. وعلى درجاتها مدائحُ ومعلقاتٌ شبهُ قديمةٍ وشبهُ حديثةٍ!
أتكيفُ مع مختبر للرؤيا، وأسلمُ عينيَّ للكون والفساد.. أصغي لحديثِ شخصٍ من الأعرابِ نبّهَ خلوتي، وأنا أعقل ناقتي على رصيف مقهى الفرح!
كل عضو فاسد، كل جزءٍ ينحطُّ.. الكوكبُ الآدميُّ يتآكلُ من داخلٍ،/ ومن خارجٍ.. تنحني سماءٌ، تنحني أرضٌ، وينحني فضاءٌ بينهما.. كل أنثى تدشن جبانةً لذكرٍ، وكلُّ ذكرٍ يتذوق لحم أنثاه ميتةً، وللسلطةِ شرائعُ تتعفنُ قطعانها!
غموضٌ جميلٌ يسقطُ فيه كلُّ شيء. وأقولُ: أيُّ نصٍ يؤاكلُ جنونهُ، وأقولُ، هذا موتُ اللغة.. ويضحك الأعرابيُّ من خلوتي في الحزن والفرح! ولكنْ! هل ينبغي أن أتفاءل قليلاً أو كثيراً، وبعد إشارة أو إشارتين أو ثلاث، وبعد بضعة عقود لابد أن تجيء جنيةٌ أولى، وتمسحَ على جبيني، ونتباوح، وترش قبضة ترابٍ على جسدينا، وتهتفُ: فلأكن أرضاً، ولتكن فلاحاً يحرثني! وأخضرُّ، وتخضرُّ، ويخضرُّ حائطٌ وسريرٌ وعتبةٌ وماءٌ، وإذ بذريّة ذكورٍ وإناثٍ تضاعفُ بلاداً فقيرةً وشحيحةً، نمت فيها بذورٌ وجذورٌ.. وتقول لي سترى بنيك وبني بنيك، وستشبع من عشرةِ الأرض والنساء، فأرتجفُ، وأتعرّقُ، وأدهش.. يغمرني ظلُّ نورٍ وظلٌّ من دخانٍ.. أنظرُ وأحدقُ، وأغمضُ عينيَّ.. أفتحهما فلا أرى أحداً!
أهو مختبرٌ للرؤيا أم مقامٌ في الجنون؟! أهي غيبةٌ أولى أم ظهورٌ آخرُ؟
ويسلمني رصيفُ مقهى الفرحِ إلى حياةٍ لا بطولةَ فيها ولا شهادةَ.. تحترقُ عباراتٌ وإشاراتٌ ورموزٌ.. فماذا يلدُ من تحت؟ ما الذي يلدُ من فوق؟
تتهشمُ وجوهٌ وأكفٌ وعيونٌ وأقدامٌ وأنابيبُ اختبارٍ.. تتراكضُ فئرانٌ وأرانبُ وحوجلاتٌ.. ملكوتٌ شبه آدميٍ يشهدُ على نهايتِه!
*
لكَ في الأرض والسماءِ حضورٌ،
وبكَ العصرُ ينتهي والأصولُ
كيف ألقاكَ، إذ حللتَ، وأصفو،
لمَ لا أهتدي، وأنتَ الدليلُ؟
لا أسميكَ، والوضوحُ غموضٌ،
أو أكنّيكَ، والتجلي حلولُ!
أنا لم أكتمل، ووجهكَ وجهي،
لغةٌ جُسِّدتْْ، ورؤيا بتولُ..
*
لم تنضجْ الفكرةُ بعدُ إذاً. ولم يكتمل نصٌّ بين دهشة وحيرةٍ وشكٍ وتساؤلٍ.. فأية عينٍ تدربها؟ وأيُّ دماغ تربيه؟ وكيف يدفنُ الأمواتُ موتاهم؟
يخيلُ إليَّ أن شخصاً من الأعراب بعباءةٍ من نورٍ ينبهُ خلوتي على رصيف مقهى الفرح، ويطالبني أن أهجم على الحياةِ بين جمهراتٍ تتفسخ تحت الأرضِ وفوقَ الأرض.!
وأتوقعُ أن أكتب قصيدةً أنا قارئها الوحيد الذي ينتجها بعد أن يهجر خلوته على رصيف مقهى الفرح!
وقد أستمرُّ في محاولةِ نصٍّ مجنونٍ!