السلطان الثامن والعشرون: محمود عدلي الثاني :
ابن السلطان عبد الحميد الاول
ولد في 13 رمضان سنة 1199 20 يوليو سنة 1785
وافتتح اعماله بأن قلد مصطفى باشا البيرقدار منصب الصدارة العظمى ووكل اليه امر تنظيم الانكشارية واجبارهم على اتباع نظاماتهم القديمة المسنونة من عهد السلطان سليمان القانوني واهملت شيئا فشيئا فبعد أن انتقم البيرقدار ممن قاوموه عند ارجاع السلطان سليم وكانوا سببا في قتله استدعى جميع ذوات الدولة ووزرائها واعيانها لمجلس حافل ولما لبوا دعوته قام فيهم خطيبا واظهر لهم ما كانت عليه حالة الانكشارية وما وصلت اليه وما يجب أن تكون عليه من النظام وضرورة تقليدهم الاسلحة النارية المخترعة حديثا والتي كان استعمالها في جيوش الروسيا سبب انتصاراتهم الاخيرة على جيوش الدولة ثم ختم كلامه بأن عرض عليهم عدة اقتراحات مهمة منها الزامهم بملازمة ثكناتهم العسكرية خصوصا غير المتزوجين منهم وقطع علائف ومرتبات الساكنين خارجا عنها وجعل تمرينهم على التعليمات العسكرية المسنونة في قانون السلطان سليمان الزاميا وتسليحهم بالاسلحة الجديدة النارية وتمرينهم على الاصول العسكرية الجديدة المستعملة في جيوش اوروبا والتي اكسبتهم قوة عظيمة وغير ذلك من الاصلاحات والترتيبات التي لو اتبعت لاصبح جيش الانكشارية اقوى جيوش العالم كما كان في بادئ الامر قبل تسلطن الخلل عليه وتدخله في الامور الداخلية والخارجية ونصب الوزراء والملوك وعزلهم بلا حق مطلقا فأقر الجميع على كل ما جاء في مشروع البيرقدار وحرروا محضرا بذلك ثم لم يكتف هو بذلك بل استحصل على فتوى بضرورة تنفيذ نظامات الانكشارية بكل صرامة واصدر اوامره بذلك وادخل اغلب ضباط الجيوش المنتظمة التي امر بابطالها في جيش الانكشارية بالوظائف العالية فأخذوا تنفيذ رغائبه بكل اعتناء وشدة فاغتاظ الانكشارية لذلك واتحدوا على مقاومته وتضافروا على الايقاع به ولم يكن للبيرقدار معين في تنفيذ قرار الجمعية الا ستة عشر الف مقاتل اتت معه من روستجق وثلاثة آلاف جندي تحت قيادة عبد الرحمن باشا رئيس الجنود المنتظمة سابقا وبعض سفن حربية تحت إمرة أمير البحر رامز باشا .
ثم لم يمض قليل حتى ساروا إلى فيليبه واظهروا التمرد والعصيان فارسل البيرقدار اثني عشر الف مقاتل من جيوشه لمحاربتهم ولم يبق الا اربعة آلاف والثلاثة آلاف القائد لهم عبد الرحمن باشا ولذلك انتهز الانكشارية هذه الفرصة وقاموا كرجل واحد في 27 رمضان سنة 1223 16 نوفمبر سنة 1808 وساروا إلى سراي السلطان مصطفى بقصد ارجاعه إلى عرش الحكومة فاعترضهم البيرقدار وقومهم مقاومة عنيفة ولما احس بأن الضعف قد داخل جيوشه وخشي من فوز الثائرين وعزل السلطان محمود أمر بقتل مصطفى الرابع وإلقاء جثته للثائرين كما فعل مصطفى الرابع مع السلطان سليم الثالث فلما رأى الانكشارية جثة السلطان مصطفى زادوا هياجا واضرموا النار في السراي الملوكية لكي يلجئوا البيرقدار على الفرار منها لكن فضل الصدر الاعظم الموت على التسليم لهذه الفئة الباغية والانصياع لطلباتها وبقي يدافع هو ومن معه حتى مات حرقا ويقال إنه تحصن في احد الابراج ثم اشعل ما كان به من البارود ومات هو ومن معه تحت انقاضه ولو صحت هذه الرواية أو تلك فكلتاهما تشهدان على ما كان متصفا به من الشهامة والشجاعة وأنه يخدم مبدأ لا شخصا وهذا المبدأ هو اصلاح الجندية وتدريبها على النظامات المستحدثة لتحققه أن الانكشارية مهما كانت قوتهم ومنعتهم لا يقوون على الثبات امام الجيوش المنتظمة المتقلدة اجود الاسلحة واتقنها .
هذا وفي اثناء دفاع البيرقدار كان امير البحر رامز باشا قد احضر ثلاث سفن حربية واوقفها بممر البوسفور وسلط مدافعها على ثكنات الانكشارية ثم نزل إلى البر مع فريق من البحارة والمدفعية وسار بهم لمساعدة البيرقدار بينما كان عبد الرحمن باشا آتيا مع فرقته المؤلفة من ثلاثة آلاف جندي لمؤازرة الوزير لكن كان قد سبق السيف العذل وقتل مصطفى باشا البيرقدار الا أن رامز باشا وعبد الرحمن باشا ومن معهما ما فتؤا يقاتلون الانكشارية حتى انهزموا امامهم في جميع الجهات بعد أن استمر اطلاق البنادق والمدافع في الاستانة طول اليوم وفي آخر النهار ارتأى رامز باشا البحري العفو عن الثائرين جميعا لو القوا سلاحهم وسلموا انفسهم لرحمة السلطان فلم يوافقه عبد الرحمن باشا بل اراد اتخاذ هذه الثورة وسيلة لاعدام الانكشارية وابطال طائفتهم كلية ووافقه السلطان محمود على ذلك .
وبناء على هذا القرار سارت جيوش السلطان في صبيحة اليوم التالي تتقدمها المدافع تقذف الصواعق على الانكشارية من كل صوب وحدب ولما رأى الثائرون أن لا مناص لهم من الهلاك اضرموا النار في جميع جوانب المدينة ولما كانت اغلب اماكنها من الخشب علا لهيب النيران وكاد الحريق يلتهمها بأجمعها فاضطر السلطان للاذعان لطلبات الانكشارية حتى يمكنه انقاذ المدينة من الدمار العاجل مؤجلا ابطال هذه الفئة المفسدة إلى فرصة اخرى وبذل جهده في اخماد النيران التي كادت تلتهم المدينة بأسرها لو لم يتداركها السلطان بحكمته واستمر الانكشارية في ثورتهم وهيجانهم .
معاهدة بوخارست مع الروسيا :
وبعد انتهاء هذه الفئة وجه السلطان اهتمامه لاصلاح الشؤون الداخلية والاستعداد لاهلاك طائفة الانكشارية وللتفرغ لذلك عقد الصلح مع دولة الانكليز في 24 ربيع الثاني سنة 1224 8 يوليو سنة 1809 وافتتح المخابرات مع الروسيا بدون أن يتوصل إلى اتفاق مرض للطرفين فاستؤنفت الحركات العدوانية ودارت رحى الحرب بين الجيشين وكانت نتيجتها أن انهزم الصدر الاعظم ضيا يوسف باشا الذي عين في هذا المنصب الرفيع بعد موت مصطفى باشا البيرقدار مع أنه هو الذي انتصر الفرنساويون عليه بمصر بالقرب من المطرية سنة 1799 وهذا مما يدل على عدم المامه بفنون الحرب واستولى الروس على مدائن اسماعيل وسلستريه وروستجق ونيكوبلي وبازارجق في سنتي 1809 و 1810 ثم عزل وتولى مكانه من يدعى احمد باشا وهو سار إلى الروس في ستين الف مقاتل في سنة 1811 وانتصر عليهم واضطرهم لاخلاء مدينة روستجق فأخلوها في 13 جمادى الثانية سنة 1226 5 يوليو من السنة المذكورة مكرهين بعد أن هدموا قلاعها واسوارها بالالغام واضرموا النار في منازلها وعبروا نهر الطونة راجعين إلى شاطئه الايسر فتبعهم احمد باشا بجيوشه وبعد عدة وقائع لا حاجة لذكرها تفصيلا عاد الروس فاحتلوا روستجق ثانية.
وفي هذه الاثناء فترت العلاقات بين الروسيا ونابليون لعدم تنفيذ شروط معاهدة تلسيت وكانت الحرب بينهما قاب قوسين أو ادنى فسعت الروسيا في مصالحة الدولة ولعدم وقوف وزراء الدولة على مجريات الامور السياسية باوروبا قبلوا افتتاح المخابرات وعينت الدولة مندوبين من قبلها اجتمعوا مع مندوبي الروسيا في مدينة بخارست وبعد مداولات طويلة توصل الفريقان إلى امضاء معاهدة عرفت في التاريخ باسم معاهدة بخارست امضيت في 16 جمادى الاولى سنة 1227 28 مايو سنة 1812 اهم شروطها بقاء ولايتي الافلاق والبغدان تابعتين للدولة ورجوع الصرب إلى حوزتها مع بعض امتيازات قليلة الاهمية عديمة الجدوى وحفظت الروسيا لنفسها اقليم بساربيا واحد مصبات الدانوب .
ولقد اعتبرت فرنسا هذه المعاهدة خيانة من الدولة للروابط القديمة الموجودة بين الدولتين إذ بابرامها تمكنت الروسيا من استعمال الجيوش التي كانت مشتغلة بمحاربة العثمانيين في صد اغارات فرنسا عن بلادها والزام نابليون القهقرى بعد حرق مدينة موسكو واهلاك اغلب جيوشه عند عبورهم نهر بيريزينا عائدين إلى بلادهم مكسورين مدحورين ونسى نابليون أن الدولة لم تأت امرا جديدا بل اقتدت بما فعله هو في تلسيت من التخلي عنها والزامها على ايقاف الحرب فضلا عما جاء بمعاهدة تلسيت من الشروط السرية القاضية بتجزئة الدولة العلية الامر الذي كاد يخرج من حيز الفكر إلى حيز الوجود لولا طلب القيصر اسكندر الاول ضم مدينة القسطنطينية إليه ليكون له بوغاز البوسفور والدردنيل وبالتالي مفاتيح اوروبا بل مفاتيح العالم بأسره وعدم قبول نابليون بذلك خوفا على مملكته الشاسعة من تعدي الروس .
ومن الغريب أن جميع دول اوروبا لا تأنف من استعمال انواع الغش والخديعة في سياستهم حتى صارت لفظة سياسية عندهم مرادفة للكذب والمين والتظاهر بغير الحقائق ولو عاملتهم احدى الدولة الشرقية لا بمثل هذه السياسة التي يتبرأ من الشرقيون بل بالصداقة مع المحافظة على الحقوق فما دام حقنا منافيا كما هو الغالب لمطامعهم في بلادنا رمونا بما اتصفوا به ونحن برآء منه .
هذا ولما بلغ رؤساء ثورة الصرب خبر معاهدة بخارست القاضية بارجاعهم إلى سلطة الدولة العلية المطلقة بعد ما بذلوه من الاموال والارواح في اعطائهم نوعا من الاستقلال الاداري ووعد قيصر الروسيا بمساعدتهم احتدموا غيظا ولم يقبلوا الرجوع إلى حالتهم الاصلية وآثروا الفناء في الدفاع عن استقلالهم فسيرت الدولة اليهم الجيوش فأخضعتهم إلى سلطانها قهرا وعاد الموظفون العثمانيون إلى مراكزهم كما كانوا قبل الثورة واسترجع جنود السباه اقطاعاتهم الاصلية فهاجر زعماء الثورة إلى النمسا والمجر منتظرين اول فرصة لاهاجة الامة ثانية طلبا للاستقلال الا احدهم المدعو ميلوش اوبرينوفتش فانه بقي في بلاده واظهر الولاء للدولة حتى عينته بوظيفة شيخ بلد لاحدى القرى وظل يهيج افكار الاهالي على الثورة ويبث فيهم روح الحرية حتى إذا انس منهم الاستعداد للقيام كرجل واحد انتهز فرصة عيد الزحف في سنة 1815 الذي يحتفل به المسيحيون في يوم الاحد السابق لعيد الفصح حيث كان جميع اهالي قريته والقرى المحاورة مجتمعين ونشر بينهم لواء العصيان ودعاهم إلى الثورة فلبوه مسرعين وانضم اليهم جميع الاهالي وعاد المهاجرون إلى اوطانهم وامتد العصيان في جميع انحاء بلاد الصرب .
وبعد أن استمر القتال سجالا بينهم وبين الجيوش العثمانية نحو السنتين قبل ميلوش اوبرينوفتش بالنيابة عن الامة الصربية الرجوع إلى سلطان الدولة بشرط أن لا تتداخل في شؤونهم الداخلية ولا في تحصيل الضرائب بل يعين لادارة البلاد وتوزيع الضرائب وتحصيلها مجلس مؤلف من اثني عشر عضوا ينتخبهم الاهالي من اعيان الامة وهم ينتخبون رئيسا لهم من بينهم يكون كحاكم عمومي وتكتفي الدولة بالمراقبة واحتلال الحصون والقلاع فقبل الباب العالي هذه الشروط وعين من يدعى مرعشلي باشا واليا للصرب واعطيت اليه تعليمات شديدة تقضي عليه بمعاملة الصربيين بالرفق واللين كي يحافظوا على ولاء الدولة ولا يسعوا في فصم ما بقي بينهما من عرى التابعية سنة 1817 ثم عين ميلوش اوبرينوفتش رئيسا لمجلس الصرب الذي يمكننا أن نسميه من الآن مجلس نوابهم واطلقوا عليه اسم سوبرانيا وصارت الصرب مستقلة تقريبا واستبد ميلوش كملك مطلق التصرف لا سلطة للوالي العثماني عليه مطلقا اكتفاء باحتلال الحصون والقلاع ولم يكن له منافس في السلطة الا قره جورج اكبر زعماء الثورة الذي هاجر إلى بلاد الروسيا فأكرم القيصر مثواه ومنحه رتبة جنرال عسكري ونشان سانت آن ولذلك خشي ميلوش من نفوذه ومساعدة الروسيا له فأصر على قتله وتربص له حتى إذا حضر مختفيا إلى بلاد الصرب قاصدا بلاد اليونان بناء على طلب زعمائها ارسل إليه ميلوش من قتله ثم ارسل رأسه إلى الاستانة علامة على حسن ولائه واخلاصه للدولة العلية صاحبة السيادة الاسمية على بلاده .
سبق لنا ذكر تحصن علي باشا في اقليم ابيروس وما جاورها واستخفافه بالدولة واوامرها ونقول إن الدولة لم ترد المسارعة في مجازاته لاشتغالها بما هو اهم منه من الشؤن الداخلية والخارجية فحمل هذا التغاضي على الخوف وزاد في عدم احترام الاوامر التي ترد اليه من الاستانة حتى وصلت به الحالة إلى الامتناع عن دفع الخراج وعدم ارسال من يطلب منه من الشبان للعسكرية واخيرا ارسل احد اتباعه إلى الاستانة لقتل بعض خواص السلطان لعدم مساعدته له في الديوان السلطاني فقتله رسول السوء في احدى شوارع الاستانة العلية ولما ظهر أن ذلك بإيعاز علي باشا امر السلطان بمحاكمته وكتب بطلبه إلى القسطنطينية لمعاقبته أو تبرئته حسب ما يظهره التحقيق فامتنع عن الحضور وجاهر بالعصيان غير مبال ببطش الدولة وراسل زعماء اليونان الذين كانوا ابتدأوا في الهياج والاضطراب طلبا للحرية لكن تداركت الدولة الامر قبل تفاقم الخطب وارسلت اليه جيوشا كافية لقمعه تحت قيادة من يدعي خورشيد باشا فحاربه هذا القائد وحصره يانيا مدة وضايق عليه الحصار حتى يئس من وصول المدد اليه من زعماء اليونان ولما رأى أن لا مناص له من التسليم فاتح خورشيد باشا في ذلك في يناير سنة 1822 ثم اجتمع به في 13 جمادى الاولى سنة 1237 5 فبراير التالي للاتفاق على شروط التسليم فأبرز له خورشيد باشا الفرمان السلطاني القاضي بقتله جزاء تمرده وعصيانه على الدولة التي والت عليه نعمائها ورفعته إلى اعلى الدرجات وفي الحال احاط به الجند وقبضوا عليه واوردوه الحمام ثم جزوا رأسه وارسلوها إلى الاستانة وبذلك انتهت فتنته وعادت السكينة إلى ربوع بلاد الارنؤد ثورة اليونان وطلبها الاستقلال .
لما قامت الثورة الفرنساوية على دعائم الحرية والمساواة والاخاء وانتشرت مبادئها في جميع انحاء اوروبا التي وطئها نابوليون بجيوشه تعدت منها إلى غيرها ووصلت فصائلها إلى بلاد اليونان فوجدت من افكار والباب سكانها مغرسا طيبا فنمت واينعت وامتدت فروعها إلى سهلها وجبلها واجتمع تحت ظلها الوارف زعماء الامة اليونانية لكنهم ايقنوا انهم لا يقوون على طلب الاستقلال الا إذا كان من ابنائهم شبان متعلمون يبثون المبادئ الجديدة بين جميع طبقات الامة فيعلمون أن لهم حقوقا يطالبون بها وواجبات يطالبهم الغير بها ولذلك عمد اغنياؤهم إلى ارسال اولادهم إلى مدارس الممالك الاوروبية ليتحلوا بالعلوم والمعارف وليكونوا رؤساء الامة ودعاة حريتها في المستقبل ثم الفوا عدة جمعيات لنشر العلم بها بين افراد الامة وبث روح الوطنية بينهم وشكلوا جمعيات اخرى سياسية محضة وجعلوا مراكزها في الروسيا والنمسا واهم هذه الجمعيات الجمعية السرية المسماة هيتيري وقيل أن تشكيلها كان بتحريض من اسكندر الاول قيصر الروسيا لايجاد المشاكل الداخلية في الدولة كي يتسنى له تنفيذ وصية بطرس الاكبر القاضية بجعل مدينة القسطنطينية مفتاح الممالك الروسية .
وكانت هذه الجمعية اشبه شيء بجمعيات الكربوناري التي انتشرت اثناء ذلك في الممالك اللاتينية أي فرنسا والبرتغال واسبانيا وايطاليا لتحرير هذه الامم بمبادئ الثورة الفرنساوية وانتشرت جمعية الهتيري بين جميع اليونان المجتمعين في اقليم مورا والمتفرقين في باقي املاك الدولة حتى بلغ عدد اعضائها في اوائل سنة 1821 نيفا وعشرين الفا وجميعهم من الشبان الاقوياء القادرين على حمل السلاح كاملي العدد متأهبين للثورة عند اول اشارة تبدو لهم من رؤسائهم ومما ساعد على امتداد جذورها بهذه الكيفية الغريبة اشتغال الدولة بمحاربة علي باشا والي يانيا .
وانتهزوا فرصة تفرغها لقمعه لنشر لواء العصيان ومقاتلة الجنود العثمانية المحتلة لحصونهم وقلاعهم وبمجرد انتهاء فتنة والي يانيا بقتله في 5 فبراير سنة 1822 وجهت الدولة خورشيد باشا إلى بلاد اليونان لاحضاعها فتغلبوا عليه في واقعة الترموبيل وفرقوا شمل جنوده في ذي الحجة سنة 1237 اغسطس سنة 1822 اما هو فآثر الموت على تحمل عار هذه الموقعة بعد ما ناله من الفخر في قهر والي يانيا فانتحر ومات مسموما .
ومما زاد في اهمية انهزام خورشيد باشا أن البحارة اليونانيين تمكنوا في يوم 27 رمضان سنة 1237هـ الموافق 17-6-1822 من حرق الدونانمة التركية في ميناء جزيرة ساقز واستشهاد ثلاثة آلاف بحري بسببها بعد أن استخلصت جزائر ساموس وساقز وغيرهما من ايدي ثائري اليونان ومجازاة سكانها ومساعديهم بقتل الرجال وسبي النساء وارتكاب انواع السلب والنهب مما كان له دوي في اوروبا واستمال الرأي العام بها لمساعدة اليونان وبقي الحرب ذلك سجالا إلى سنة 1824 سفر الجنود العثمانية إلى اليونان .
ولما رأى السلطان محمود ما الم بجيوشه في هذه الحروب المستمرة والمناوشات الغير منقطعة وثبات اليونانيين امام الجيوش العثمانية واعتصامهم بالجبال وعدم قدرة الجنود على اللحاق بهم في جبالهم الوعرة اراد أن يحيل مأمورية محاربتهم على محمد علي باشا والي مصر نظرا لما ابداه هو وولده الشهم الهمام ابراهيم باشا في محاربة الوهابيين من جهة وليشغله عما كان يظن أنه ينويه من طلب الاستقلال من جهة اخرى إذ توهم الباب العالي أنه لو لم تكن هذه وجهته الحقيقية لما بذل وسعه في تنظيم جيش جديد مؤلف من الشبان المصريين الذين جعل اعتماده عليهم بدل اخلاط الترك وتدريبهم على النظام الاوروبي بمساعدة ضباط من الفرنساويين فلهذه المناسبات اصدر السلطان فرمانا بتاريخ 5 رجب سنة 1239 6 مارس سنة 1824 بتعيين محمد علي باشا واليا على جزيرة كريد واقليم موره وهما بؤرتا هذه الثورة .
فلم يسع محمد علي باشا الا الاذعان لاوامر متبوعة الأعلى خوفا من حمل امتناعه على العصيان والاستقلال الامر الذي ما كانت قواه الحربية تساعده على اتمامه وفي الحال اصدر اوامره باستعداد سبعة عشر الف جندي كلهم مصريون من المشاة للسفر وعدد من الفرسان والمدفعية وعين بكر اولاده مخضع الوهابيين وفاتح السودان قائدا عاما لهذه الحملة وارفقه بسليمان بيك هو الكولونيل سيف الفرنساوي منظم الجيوش ليساعده بمعلوماته العسكرية التي تحصل عليها اثناء وجوده ضمن جيوش نابوليون الشهيرة بحسن الترتيب وكمال النظام فاستعدت هذه الارسالية للسفر من ثغر الاسكندرية
وابحرت منه تحت قيادة بطل مصر ابراهيم باشا 19 ذي القعدة سنة 1239 الموافق 16-7-1824 على سفن مصرية تكتنفها سفن حربية مصرية ايضا من سفن الدونانمة التي انشأها محمد علي باشا في البحر الابيض لحماية ثغور مصر من هجمات الاعادي كما حصل من الانكليز سنة 1807 فسارت السفن باسم الله مجرايها إلى جزيرة رودس للاجتماع بالدونانمة العثمانية
ثم ترك ابراهيم باشا فيها سليمان بك الفرنساوي مع حامية كافي من تعدي الثائرين عليها وقصد هو جزيرة كريد فاحتلها ومنها قام إلى سواحل بلاد موره يحاول انزال جنوده فيها وبعد العناء الشديد تمكن من انزالهم في ميناء مودون ولم يكن باقيا في ايدي العثمانيين إذ ذاك من جميع اليونان الا هذه المدينة ومدينة كورون ولو لم تكن مساعدة اوروبا لليونانيين بالمال والرجال لما امكنهم مقاومة الجنود العثمانية فانه لما شرعت اليونان في طلب الاستقلال شكلت في اوروبا عدة جمعيات دعيت بجمعيات محبي اليونان وجمعت كثيرا من المال ارسلت به إلى الثائرين كميات وافرة من الاسلحة والذخائر وتطوع كثير من اعضائها في عدد المحاربين ومن ضمنهم كثير من مشاهير اوروبا وامريكا مثل وشنطون ابن محرر امريكا الشهير واللورد بيرون الشاعر الانكليزي وغيرهما من فحول الرجال الذين وقفوا حياتهم للدفاع عن الحرية في أي زمان ومكان انتصارا لمبادئهم لا لامة معلومة او رجل معلوم ومما ساعد على دخول بعض الشبان المشهورين في جيوش اليونان القصائد الحماسية التي نشرها فيما بينهم فيكتور هوجو الشاعر المحلق الفرنساوي و كازيمير دلافين الناظم الشهير
ولم يلبث ابراهيم باشا ان امد مدينة كورون التي كان يحصرها اليونانيون بالرجال والذخائر في 3 شعبان سنة 1240 الموافق 23-3-1825
ثم فتح مدينة ناورين الشهيرة بعد حصار شديد ودخلها منصورا في 28 رمضان سنة 1240 16 مايو سنة 1825
وبعد قليل فتح مدينة كلاماتا
وفي 23 مايو احتل مدينة تريبولتسا
ثم استدعاه رشيد باشا الذي كان محاصرا مدينة ميسولونجي لمساعدته على فتحها وكانت قد اعيته في ذلك الحيل لوقوعها على البحر ووصول المدد اليها تباعا من جهة البر فقام ابراهيم باشا بجيوشه ملبيا دعوته واتبع في فتحها الطريق التي ارشده سليمان بيك الفرنساوي اليها في محاصرة والمصريون في 14-9-1241هـ الموافق 22-4-1826
وفي يونيو من السنة التالية فتح العثمانيون مدينةآتينا وقلعتهاالشهيرة اكروبول رغما عن دفاع اللورد كوشران القائد البحري الانكليزي الذي عين من قبل اليونانيين قائدا عاما لجيوشهم البرية والبحرية لعدم اتفاقهم على تعيين احدهم
تابع
وبينما يستعد ابراهيم باشا لفتح ما بقي من بلاد اليونان في ايدي الثائرين إذ تدخلت الدول بين الباب العالي ومتبوعيه بحجة حماية اليونانيين في الظاهر ولفتح المسألة الشرقية وتقسيم بلاد الدولة بينهم في الباطن وبيان هذا التدخل ان الدولة لامت الروسيا اكثر من مرة على مساعدتها الثائرين وحماية من يلتجئ منهم إلى بلادها وهي لا تصغي لهذا اللوم ولا تنصت للحق بل استمرت على مساعدتهم طمعا في نوال بغيتها الاصلية وهي احتلالها الاستانة وجعلها مركزا للديانةالارثوذكسي كما ان مدينة رومة مركزا للديانة الكاثوليكية ثم استمرت المخابرات بين الدولتين مدة بدون فائدة لرغبة الروسيا التدخل بين التابع والمتبوع وعدم قبول الباب العالي أي تدخل اجنبي في شؤونه الداخلية بين رعاياه
ولما توفي القيصر اسكندر الاول في (1-12-1825) الموافق 18-4-1241 هـ وتولى بعده نقولا الاول اهتم بمسألة اليونان متبعا خطة سلفه السياسية وباتحاده مع انكلترا التي كان قصدها منع الحرب بين الدولتين اضطر الباب العالي إلى التصديق على (معاهدة آق كرمان ) في 28-2-1242هـ الموافق 1-10-1826
وملخص هذه المعاهدة أن يكون للروسيا حق الملاحة في البحر الاسود والمرور من البوغازين بدون أن يكون للدولة وجه في تفتيش سفنهاوأن تنتخب حكام ولايتي الافلاق والبغدان بمعرفة الاعيان لمدة سبع سنوات مع عدم جواز عزلهما أو احدهما الا باقرار الروسيا وأن تكون ولاية الصرب مستقلة تقريبا وأن لا تحتل العساكر التركية الا قلعة بلغراد وثلاث قلاع اخرى ولم يذكر بهذه المعاهدة شيء عن اليونان لايجاد سبب للاشكال في المستقبل بل اتفقت الروسيا وانكلترا على استعمال كل نفوذهما لوضع حد للحروب المستمرة بها ولو كره الباب العالي ووافقتهما دول النمسا والبروسيا وفرنسا
ابن السلطان عبد الحميد الاول
ولد في 13 رمضان سنة 1199 20 يوليو سنة 1785
وافتتح اعماله بأن قلد مصطفى باشا البيرقدار منصب الصدارة العظمى ووكل اليه امر تنظيم الانكشارية واجبارهم على اتباع نظاماتهم القديمة المسنونة من عهد السلطان سليمان القانوني واهملت شيئا فشيئا فبعد أن انتقم البيرقدار ممن قاوموه عند ارجاع السلطان سليم وكانوا سببا في قتله استدعى جميع ذوات الدولة ووزرائها واعيانها لمجلس حافل ولما لبوا دعوته قام فيهم خطيبا واظهر لهم ما كانت عليه حالة الانكشارية وما وصلت اليه وما يجب أن تكون عليه من النظام وضرورة تقليدهم الاسلحة النارية المخترعة حديثا والتي كان استعمالها في جيوش الروسيا سبب انتصاراتهم الاخيرة على جيوش الدولة ثم ختم كلامه بأن عرض عليهم عدة اقتراحات مهمة منها الزامهم بملازمة ثكناتهم العسكرية خصوصا غير المتزوجين منهم وقطع علائف ومرتبات الساكنين خارجا عنها وجعل تمرينهم على التعليمات العسكرية المسنونة في قانون السلطان سليمان الزاميا وتسليحهم بالاسلحة الجديدة النارية وتمرينهم على الاصول العسكرية الجديدة المستعملة في جيوش اوروبا والتي اكسبتهم قوة عظيمة وغير ذلك من الاصلاحات والترتيبات التي لو اتبعت لاصبح جيش الانكشارية اقوى جيوش العالم كما كان في بادئ الامر قبل تسلطن الخلل عليه وتدخله في الامور الداخلية والخارجية ونصب الوزراء والملوك وعزلهم بلا حق مطلقا فأقر الجميع على كل ما جاء في مشروع البيرقدار وحرروا محضرا بذلك ثم لم يكتف هو بذلك بل استحصل على فتوى بضرورة تنفيذ نظامات الانكشارية بكل صرامة واصدر اوامره بذلك وادخل اغلب ضباط الجيوش المنتظمة التي امر بابطالها في جيش الانكشارية بالوظائف العالية فأخذوا تنفيذ رغائبه بكل اعتناء وشدة فاغتاظ الانكشارية لذلك واتحدوا على مقاومته وتضافروا على الايقاع به ولم يكن للبيرقدار معين في تنفيذ قرار الجمعية الا ستة عشر الف مقاتل اتت معه من روستجق وثلاثة آلاف جندي تحت قيادة عبد الرحمن باشا رئيس الجنود المنتظمة سابقا وبعض سفن حربية تحت إمرة أمير البحر رامز باشا .
ثم لم يمض قليل حتى ساروا إلى فيليبه واظهروا التمرد والعصيان فارسل البيرقدار اثني عشر الف مقاتل من جيوشه لمحاربتهم ولم يبق الا اربعة آلاف والثلاثة آلاف القائد لهم عبد الرحمن باشا ولذلك انتهز الانكشارية هذه الفرصة وقاموا كرجل واحد في 27 رمضان سنة 1223 16 نوفمبر سنة 1808 وساروا إلى سراي السلطان مصطفى بقصد ارجاعه إلى عرش الحكومة فاعترضهم البيرقدار وقومهم مقاومة عنيفة ولما احس بأن الضعف قد داخل جيوشه وخشي من فوز الثائرين وعزل السلطان محمود أمر بقتل مصطفى الرابع وإلقاء جثته للثائرين كما فعل مصطفى الرابع مع السلطان سليم الثالث فلما رأى الانكشارية جثة السلطان مصطفى زادوا هياجا واضرموا النار في السراي الملوكية لكي يلجئوا البيرقدار على الفرار منها لكن فضل الصدر الاعظم الموت على التسليم لهذه الفئة الباغية والانصياع لطلباتها وبقي يدافع هو ومن معه حتى مات حرقا ويقال إنه تحصن في احد الابراج ثم اشعل ما كان به من البارود ومات هو ومن معه تحت انقاضه ولو صحت هذه الرواية أو تلك فكلتاهما تشهدان على ما كان متصفا به من الشهامة والشجاعة وأنه يخدم مبدأ لا شخصا وهذا المبدأ هو اصلاح الجندية وتدريبها على النظامات المستحدثة لتحققه أن الانكشارية مهما كانت قوتهم ومنعتهم لا يقوون على الثبات امام الجيوش المنتظمة المتقلدة اجود الاسلحة واتقنها .
هذا وفي اثناء دفاع البيرقدار كان امير البحر رامز باشا قد احضر ثلاث سفن حربية واوقفها بممر البوسفور وسلط مدافعها على ثكنات الانكشارية ثم نزل إلى البر مع فريق من البحارة والمدفعية وسار بهم لمساعدة البيرقدار بينما كان عبد الرحمن باشا آتيا مع فرقته المؤلفة من ثلاثة آلاف جندي لمؤازرة الوزير لكن كان قد سبق السيف العذل وقتل مصطفى باشا البيرقدار الا أن رامز باشا وعبد الرحمن باشا ومن معهما ما فتؤا يقاتلون الانكشارية حتى انهزموا امامهم في جميع الجهات بعد أن استمر اطلاق البنادق والمدافع في الاستانة طول اليوم وفي آخر النهار ارتأى رامز باشا البحري العفو عن الثائرين جميعا لو القوا سلاحهم وسلموا انفسهم لرحمة السلطان فلم يوافقه عبد الرحمن باشا بل اراد اتخاذ هذه الثورة وسيلة لاعدام الانكشارية وابطال طائفتهم كلية ووافقه السلطان محمود على ذلك .
وبناء على هذا القرار سارت جيوش السلطان في صبيحة اليوم التالي تتقدمها المدافع تقذف الصواعق على الانكشارية من كل صوب وحدب ولما رأى الثائرون أن لا مناص لهم من الهلاك اضرموا النار في جميع جوانب المدينة ولما كانت اغلب اماكنها من الخشب علا لهيب النيران وكاد الحريق يلتهمها بأجمعها فاضطر السلطان للاذعان لطلبات الانكشارية حتى يمكنه انقاذ المدينة من الدمار العاجل مؤجلا ابطال هذه الفئة المفسدة إلى فرصة اخرى وبذل جهده في اخماد النيران التي كادت تلتهم المدينة بأسرها لو لم يتداركها السلطان بحكمته واستمر الانكشارية في ثورتهم وهيجانهم .
معاهدة بوخارست مع الروسيا :
وبعد انتهاء هذه الفئة وجه السلطان اهتمامه لاصلاح الشؤون الداخلية والاستعداد لاهلاك طائفة الانكشارية وللتفرغ لذلك عقد الصلح مع دولة الانكليز في 24 ربيع الثاني سنة 1224 8 يوليو سنة 1809 وافتتح المخابرات مع الروسيا بدون أن يتوصل إلى اتفاق مرض للطرفين فاستؤنفت الحركات العدوانية ودارت رحى الحرب بين الجيشين وكانت نتيجتها أن انهزم الصدر الاعظم ضيا يوسف باشا الذي عين في هذا المنصب الرفيع بعد موت مصطفى باشا البيرقدار مع أنه هو الذي انتصر الفرنساويون عليه بمصر بالقرب من المطرية سنة 1799 وهذا مما يدل على عدم المامه بفنون الحرب واستولى الروس على مدائن اسماعيل وسلستريه وروستجق ونيكوبلي وبازارجق في سنتي 1809 و 1810 ثم عزل وتولى مكانه من يدعى احمد باشا وهو سار إلى الروس في ستين الف مقاتل في سنة 1811 وانتصر عليهم واضطرهم لاخلاء مدينة روستجق فأخلوها في 13 جمادى الثانية سنة 1226 5 يوليو من السنة المذكورة مكرهين بعد أن هدموا قلاعها واسوارها بالالغام واضرموا النار في منازلها وعبروا نهر الطونة راجعين إلى شاطئه الايسر فتبعهم احمد باشا بجيوشه وبعد عدة وقائع لا حاجة لذكرها تفصيلا عاد الروس فاحتلوا روستجق ثانية.
وفي هذه الاثناء فترت العلاقات بين الروسيا ونابليون لعدم تنفيذ شروط معاهدة تلسيت وكانت الحرب بينهما قاب قوسين أو ادنى فسعت الروسيا في مصالحة الدولة ولعدم وقوف وزراء الدولة على مجريات الامور السياسية باوروبا قبلوا افتتاح المخابرات وعينت الدولة مندوبين من قبلها اجتمعوا مع مندوبي الروسيا في مدينة بخارست وبعد مداولات طويلة توصل الفريقان إلى امضاء معاهدة عرفت في التاريخ باسم معاهدة بخارست امضيت في 16 جمادى الاولى سنة 1227 28 مايو سنة 1812 اهم شروطها بقاء ولايتي الافلاق والبغدان تابعتين للدولة ورجوع الصرب إلى حوزتها مع بعض امتيازات قليلة الاهمية عديمة الجدوى وحفظت الروسيا لنفسها اقليم بساربيا واحد مصبات الدانوب .
ولقد اعتبرت فرنسا هذه المعاهدة خيانة من الدولة للروابط القديمة الموجودة بين الدولتين إذ بابرامها تمكنت الروسيا من استعمال الجيوش التي كانت مشتغلة بمحاربة العثمانيين في صد اغارات فرنسا عن بلادها والزام نابليون القهقرى بعد حرق مدينة موسكو واهلاك اغلب جيوشه عند عبورهم نهر بيريزينا عائدين إلى بلادهم مكسورين مدحورين ونسى نابليون أن الدولة لم تأت امرا جديدا بل اقتدت بما فعله هو في تلسيت من التخلي عنها والزامها على ايقاف الحرب فضلا عما جاء بمعاهدة تلسيت من الشروط السرية القاضية بتجزئة الدولة العلية الامر الذي كاد يخرج من حيز الفكر إلى حيز الوجود لولا طلب القيصر اسكندر الاول ضم مدينة القسطنطينية إليه ليكون له بوغاز البوسفور والدردنيل وبالتالي مفاتيح اوروبا بل مفاتيح العالم بأسره وعدم قبول نابليون بذلك خوفا على مملكته الشاسعة من تعدي الروس .
ومن الغريب أن جميع دول اوروبا لا تأنف من استعمال انواع الغش والخديعة في سياستهم حتى صارت لفظة سياسية عندهم مرادفة للكذب والمين والتظاهر بغير الحقائق ولو عاملتهم احدى الدولة الشرقية لا بمثل هذه السياسة التي يتبرأ من الشرقيون بل بالصداقة مع المحافظة على الحقوق فما دام حقنا منافيا كما هو الغالب لمطامعهم في بلادنا رمونا بما اتصفوا به ونحن برآء منه .
هذا ولما بلغ رؤساء ثورة الصرب خبر معاهدة بخارست القاضية بارجاعهم إلى سلطة الدولة العلية المطلقة بعد ما بذلوه من الاموال والارواح في اعطائهم نوعا من الاستقلال الاداري ووعد قيصر الروسيا بمساعدتهم احتدموا غيظا ولم يقبلوا الرجوع إلى حالتهم الاصلية وآثروا الفناء في الدفاع عن استقلالهم فسيرت الدولة اليهم الجيوش فأخضعتهم إلى سلطانها قهرا وعاد الموظفون العثمانيون إلى مراكزهم كما كانوا قبل الثورة واسترجع جنود السباه اقطاعاتهم الاصلية فهاجر زعماء الثورة إلى النمسا والمجر منتظرين اول فرصة لاهاجة الامة ثانية طلبا للاستقلال الا احدهم المدعو ميلوش اوبرينوفتش فانه بقي في بلاده واظهر الولاء للدولة حتى عينته بوظيفة شيخ بلد لاحدى القرى وظل يهيج افكار الاهالي على الثورة ويبث فيهم روح الحرية حتى إذا انس منهم الاستعداد للقيام كرجل واحد انتهز فرصة عيد الزحف في سنة 1815 الذي يحتفل به المسيحيون في يوم الاحد السابق لعيد الفصح حيث كان جميع اهالي قريته والقرى المحاورة مجتمعين ونشر بينهم لواء العصيان ودعاهم إلى الثورة فلبوه مسرعين وانضم اليهم جميع الاهالي وعاد المهاجرون إلى اوطانهم وامتد العصيان في جميع انحاء بلاد الصرب .
وبعد أن استمر القتال سجالا بينهم وبين الجيوش العثمانية نحو السنتين قبل ميلوش اوبرينوفتش بالنيابة عن الامة الصربية الرجوع إلى سلطان الدولة بشرط أن لا تتداخل في شؤونهم الداخلية ولا في تحصيل الضرائب بل يعين لادارة البلاد وتوزيع الضرائب وتحصيلها مجلس مؤلف من اثني عشر عضوا ينتخبهم الاهالي من اعيان الامة وهم ينتخبون رئيسا لهم من بينهم يكون كحاكم عمومي وتكتفي الدولة بالمراقبة واحتلال الحصون والقلاع فقبل الباب العالي هذه الشروط وعين من يدعى مرعشلي باشا واليا للصرب واعطيت اليه تعليمات شديدة تقضي عليه بمعاملة الصربيين بالرفق واللين كي يحافظوا على ولاء الدولة ولا يسعوا في فصم ما بقي بينهما من عرى التابعية سنة 1817 ثم عين ميلوش اوبرينوفتش رئيسا لمجلس الصرب الذي يمكننا أن نسميه من الآن مجلس نوابهم واطلقوا عليه اسم سوبرانيا وصارت الصرب مستقلة تقريبا واستبد ميلوش كملك مطلق التصرف لا سلطة للوالي العثماني عليه مطلقا اكتفاء باحتلال الحصون والقلاع ولم يكن له منافس في السلطة الا قره جورج اكبر زعماء الثورة الذي هاجر إلى بلاد الروسيا فأكرم القيصر مثواه ومنحه رتبة جنرال عسكري ونشان سانت آن ولذلك خشي ميلوش من نفوذه ومساعدة الروسيا له فأصر على قتله وتربص له حتى إذا حضر مختفيا إلى بلاد الصرب قاصدا بلاد اليونان بناء على طلب زعمائها ارسل إليه ميلوش من قتله ثم ارسل رأسه إلى الاستانة علامة على حسن ولائه واخلاصه للدولة العلية صاحبة السيادة الاسمية على بلاده .
سبق لنا ذكر تحصن علي باشا في اقليم ابيروس وما جاورها واستخفافه بالدولة واوامرها ونقول إن الدولة لم ترد المسارعة في مجازاته لاشتغالها بما هو اهم منه من الشؤن الداخلية والخارجية فحمل هذا التغاضي على الخوف وزاد في عدم احترام الاوامر التي ترد اليه من الاستانة حتى وصلت به الحالة إلى الامتناع عن دفع الخراج وعدم ارسال من يطلب منه من الشبان للعسكرية واخيرا ارسل احد اتباعه إلى الاستانة لقتل بعض خواص السلطان لعدم مساعدته له في الديوان السلطاني فقتله رسول السوء في احدى شوارع الاستانة العلية ولما ظهر أن ذلك بإيعاز علي باشا امر السلطان بمحاكمته وكتب بطلبه إلى القسطنطينية لمعاقبته أو تبرئته حسب ما يظهره التحقيق فامتنع عن الحضور وجاهر بالعصيان غير مبال ببطش الدولة وراسل زعماء اليونان الذين كانوا ابتدأوا في الهياج والاضطراب طلبا للحرية لكن تداركت الدولة الامر قبل تفاقم الخطب وارسلت اليه جيوشا كافية لقمعه تحت قيادة من يدعي خورشيد باشا فحاربه هذا القائد وحصره يانيا مدة وضايق عليه الحصار حتى يئس من وصول المدد اليه من زعماء اليونان ولما رأى أن لا مناص له من التسليم فاتح خورشيد باشا في ذلك في يناير سنة 1822 ثم اجتمع به في 13 جمادى الاولى سنة 1237 5 فبراير التالي للاتفاق على شروط التسليم فأبرز له خورشيد باشا الفرمان السلطاني القاضي بقتله جزاء تمرده وعصيانه على الدولة التي والت عليه نعمائها ورفعته إلى اعلى الدرجات وفي الحال احاط به الجند وقبضوا عليه واوردوه الحمام ثم جزوا رأسه وارسلوها إلى الاستانة وبذلك انتهت فتنته وعادت السكينة إلى ربوع بلاد الارنؤد ثورة اليونان وطلبها الاستقلال .
لما قامت الثورة الفرنساوية على دعائم الحرية والمساواة والاخاء وانتشرت مبادئها في جميع انحاء اوروبا التي وطئها نابوليون بجيوشه تعدت منها إلى غيرها ووصلت فصائلها إلى بلاد اليونان فوجدت من افكار والباب سكانها مغرسا طيبا فنمت واينعت وامتدت فروعها إلى سهلها وجبلها واجتمع تحت ظلها الوارف زعماء الامة اليونانية لكنهم ايقنوا انهم لا يقوون على طلب الاستقلال الا إذا كان من ابنائهم شبان متعلمون يبثون المبادئ الجديدة بين جميع طبقات الامة فيعلمون أن لهم حقوقا يطالبون بها وواجبات يطالبهم الغير بها ولذلك عمد اغنياؤهم إلى ارسال اولادهم إلى مدارس الممالك الاوروبية ليتحلوا بالعلوم والمعارف وليكونوا رؤساء الامة ودعاة حريتها في المستقبل ثم الفوا عدة جمعيات لنشر العلم بها بين افراد الامة وبث روح الوطنية بينهم وشكلوا جمعيات اخرى سياسية محضة وجعلوا مراكزها في الروسيا والنمسا واهم هذه الجمعيات الجمعية السرية المسماة هيتيري وقيل أن تشكيلها كان بتحريض من اسكندر الاول قيصر الروسيا لايجاد المشاكل الداخلية في الدولة كي يتسنى له تنفيذ وصية بطرس الاكبر القاضية بجعل مدينة القسطنطينية مفتاح الممالك الروسية .
وكانت هذه الجمعية اشبه شيء بجمعيات الكربوناري التي انتشرت اثناء ذلك في الممالك اللاتينية أي فرنسا والبرتغال واسبانيا وايطاليا لتحرير هذه الامم بمبادئ الثورة الفرنساوية وانتشرت جمعية الهتيري بين جميع اليونان المجتمعين في اقليم مورا والمتفرقين في باقي املاك الدولة حتى بلغ عدد اعضائها في اوائل سنة 1821 نيفا وعشرين الفا وجميعهم من الشبان الاقوياء القادرين على حمل السلاح كاملي العدد متأهبين للثورة عند اول اشارة تبدو لهم من رؤسائهم ومما ساعد على امتداد جذورها بهذه الكيفية الغريبة اشتغال الدولة بمحاربة علي باشا والي يانيا .
وانتهزوا فرصة تفرغها لقمعه لنشر لواء العصيان ومقاتلة الجنود العثمانية المحتلة لحصونهم وقلاعهم وبمجرد انتهاء فتنة والي يانيا بقتله في 5 فبراير سنة 1822 وجهت الدولة خورشيد باشا إلى بلاد اليونان لاحضاعها فتغلبوا عليه في واقعة الترموبيل وفرقوا شمل جنوده في ذي الحجة سنة 1237 اغسطس سنة 1822 اما هو فآثر الموت على تحمل عار هذه الموقعة بعد ما ناله من الفخر في قهر والي يانيا فانتحر ومات مسموما .
ومما زاد في اهمية انهزام خورشيد باشا أن البحارة اليونانيين تمكنوا في يوم 27 رمضان سنة 1237هـ الموافق 17-6-1822 من حرق الدونانمة التركية في ميناء جزيرة ساقز واستشهاد ثلاثة آلاف بحري بسببها بعد أن استخلصت جزائر ساموس وساقز وغيرهما من ايدي ثائري اليونان ومجازاة سكانها ومساعديهم بقتل الرجال وسبي النساء وارتكاب انواع السلب والنهب مما كان له دوي في اوروبا واستمال الرأي العام بها لمساعدة اليونان وبقي الحرب ذلك سجالا إلى سنة 1824 سفر الجنود العثمانية إلى اليونان .
ولما رأى السلطان محمود ما الم بجيوشه في هذه الحروب المستمرة والمناوشات الغير منقطعة وثبات اليونانيين امام الجيوش العثمانية واعتصامهم بالجبال وعدم قدرة الجنود على اللحاق بهم في جبالهم الوعرة اراد أن يحيل مأمورية محاربتهم على محمد علي باشا والي مصر نظرا لما ابداه هو وولده الشهم الهمام ابراهيم باشا في محاربة الوهابيين من جهة وليشغله عما كان يظن أنه ينويه من طلب الاستقلال من جهة اخرى إذ توهم الباب العالي أنه لو لم تكن هذه وجهته الحقيقية لما بذل وسعه في تنظيم جيش جديد مؤلف من الشبان المصريين الذين جعل اعتماده عليهم بدل اخلاط الترك وتدريبهم على النظام الاوروبي بمساعدة ضباط من الفرنساويين فلهذه المناسبات اصدر السلطان فرمانا بتاريخ 5 رجب سنة 1239 6 مارس سنة 1824 بتعيين محمد علي باشا واليا على جزيرة كريد واقليم موره وهما بؤرتا هذه الثورة .
فلم يسع محمد علي باشا الا الاذعان لاوامر متبوعة الأعلى خوفا من حمل امتناعه على العصيان والاستقلال الامر الذي ما كانت قواه الحربية تساعده على اتمامه وفي الحال اصدر اوامره باستعداد سبعة عشر الف جندي كلهم مصريون من المشاة للسفر وعدد من الفرسان والمدفعية وعين بكر اولاده مخضع الوهابيين وفاتح السودان قائدا عاما لهذه الحملة وارفقه بسليمان بيك هو الكولونيل سيف الفرنساوي منظم الجيوش ليساعده بمعلوماته العسكرية التي تحصل عليها اثناء وجوده ضمن جيوش نابوليون الشهيرة بحسن الترتيب وكمال النظام فاستعدت هذه الارسالية للسفر من ثغر الاسكندرية
وابحرت منه تحت قيادة بطل مصر ابراهيم باشا 19 ذي القعدة سنة 1239 الموافق 16-7-1824 على سفن مصرية تكتنفها سفن حربية مصرية ايضا من سفن الدونانمة التي انشأها محمد علي باشا في البحر الابيض لحماية ثغور مصر من هجمات الاعادي كما حصل من الانكليز سنة 1807 فسارت السفن باسم الله مجرايها إلى جزيرة رودس للاجتماع بالدونانمة العثمانية
ثم ترك ابراهيم باشا فيها سليمان بك الفرنساوي مع حامية كافي من تعدي الثائرين عليها وقصد هو جزيرة كريد فاحتلها ومنها قام إلى سواحل بلاد موره يحاول انزال جنوده فيها وبعد العناء الشديد تمكن من انزالهم في ميناء مودون ولم يكن باقيا في ايدي العثمانيين إذ ذاك من جميع اليونان الا هذه المدينة ومدينة كورون ولو لم تكن مساعدة اوروبا لليونانيين بالمال والرجال لما امكنهم مقاومة الجنود العثمانية فانه لما شرعت اليونان في طلب الاستقلال شكلت في اوروبا عدة جمعيات دعيت بجمعيات محبي اليونان وجمعت كثيرا من المال ارسلت به إلى الثائرين كميات وافرة من الاسلحة والذخائر وتطوع كثير من اعضائها في عدد المحاربين ومن ضمنهم كثير من مشاهير اوروبا وامريكا مثل وشنطون ابن محرر امريكا الشهير واللورد بيرون الشاعر الانكليزي وغيرهما من فحول الرجال الذين وقفوا حياتهم للدفاع عن الحرية في أي زمان ومكان انتصارا لمبادئهم لا لامة معلومة او رجل معلوم ومما ساعد على دخول بعض الشبان المشهورين في جيوش اليونان القصائد الحماسية التي نشرها فيما بينهم فيكتور هوجو الشاعر المحلق الفرنساوي و كازيمير دلافين الناظم الشهير
ولم يلبث ابراهيم باشا ان امد مدينة كورون التي كان يحصرها اليونانيون بالرجال والذخائر في 3 شعبان سنة 1240 الموافق 23-3-1825
ثم فتح مدينة ناورين الشهيرة بعد حصار شديد ودخلها منصورا في 28 رمضان سنة 1240 16 مايو سنة 1825
وبعد قليل فتح مدينة كلاماتا
وفي 23 مايو احتل مدينة تريبولتسا
ثم استدعاه رشيد باشا الذي كان محاصرا مدينة ميسولونجي لمساعدته على فتحها وكانت قد اعيته في ذلك الحيل لوقوعها على البحر ووصول المدد اليها تباعا من جهة البر فقام ابراهيم باشا بجيوشه ملبيا دعوته واتبع في فتحها الطريق التي ارشده سليمان بيك الفرنساوي اليها في محاصرة والمصريون في 14-9-1241هـ الموافق 22-4-1826
وفي يونيو من السنة التالية فتح العثمانيون مدينةآتينا وقلعتهاالشهيرة اكروبول رغما عن دفاع اللورد كوشران القائد البحري الانكليزي الذي عين من قبل اليونانيين قائدا عاما لجيوشهم البرية والبحرية لعدم اتفاقهم على تعيين احدهم
تابع
وبينما يستعد ابراهيم باشا لفتح ما بقي من بلاد اليونان في ايدي الثائرين إذ تدخلت الدول بين الباب العالي ومتبوعيه بحجة حماية اليونانيين في الظاهر ولفتح المسألة الشرقية وتقسيم بلاد الدولة بينهم في الباطن وبيان هذا التدخل ان الدولة لامت الروسيا اكثر من مرة على مساعدتها الثائرين وحماية من يلتجئ منهم إلى بلادها وهي لا تصغي لهذا اللوم ولا تنصت للحق بل استمرت على مساعدتهم طمعا في نوال بغيتها الاصلية وهي احتلالها الاستانة وجعلها مركزا للديانةالارثوذكسي كما ان مدينة رومة مركزا للديانة الكاثوليكية ثم استمرت المخابرات بين الدولتين مدة بدون فائدة لرغبة الروسيا التدخل بين التابع والمتبوع وعدم قبول الباب العالي أي تدخل اجنبي في شؤونه الداخلية بين رعاياه
ولما توفي القيصر اسكندر الاول في (1-12-1825) الموافق 18-4-1241 هـ وتولى بعده نقولا الاول اهتم بمسألة اليونان متبعا خطة سلفه السياسية وباتحاده مع انكلترا التي كان قصدها منع الحرب بين الدولتين اضطر الباب العالي إلى التصديق على (معاهدة آق كرمان ) في 28-2-1242هـ الموافق 1-10-1826
وملخص هذه المعاهدة أن يكون للروسيا حق الملاحة في البحر الاسود والمرور من البوغازين بدون أن يكون للدولة وجه في تفتيش سفنهاوأن تنتخب حكام ولايتي الافلاق والبغدان بمعرفة الاعيان لمدة سبع سنوات مع عدم جواز عزلهما أو احدهما الا باقرار الروسيا وأن تكون ولاية الصرب مستقلة تقريبا وأن لا تحتل العساكر التركية الا قلعة بلغراد وثلاث قلاع اخرى ولم يذكر بهذه المعاهدة شيء عن اليونان لايجاد سبب للاشكال في المستقبل بل اتفقت الروسيا وانكلترا على استعمال كل نفوذهما لوضع حد للحروب المستمرة بها ولو كره الباب العالي ووافقتهما دول النمسا والبروسيا وفرنسا